خالد بن حمد الرواحي
في كل عام، تُعلن بعض المؤسسات أرقامًا برَّاقة عن منجزاتها؛ تُغري المتلقي بعناوينها وتُدهشه بتفاصيلها، لكن خلف هذا الوهج تقف أحيانًا حقيقةٌ أكثر هدوءًا وأقل بريقًا: واقعٌ لا يشبه ما يُكتب في التقارير. فما قيمة الأرقام إن لم تترك أثرًا في حياة الناس؟ وحين تتحوّل الأرقام من وسيلةٍ لتقييم الأداء إلى أداةٍ لتجميله، تفقد معناها الحقيقي، وتتحوّل من مرآةٍ تعكس الواقع إلى ستارٍ يُخفيه.
يتضخّم الإنجاز على الورق، بينما تتضاءل نتائجه في الميدان. تُعرض المشاريع الصغيرة كتحوّلاتٍ كبرى، وتُقدَّم النجاحات الجزئية كقصص اكتمالٍ شامل. تُصمَّم المؤشرات لتقول ما يُرضي، لا ما يُعبّر، وتُجمَّل البيانات لتبدو الأمور على خير ما يُرام. وهكذا تتحوّل التقارير إلى مسرحٍ للأرقام المُنتقاة، تُرفع فيه النسب بقدر ما يُخفَض فيه الصدق. غير أنّ خلف تلك اللوحات الإحصائية مجتمعًا يراقب ويسأل بصمت: لماذا لا تشبه الأرقام الواقع؟ إنها اللحظة التي يتبدّل فيها معنى التقييم من مساءلةٍ إلى مجاملة، ومن تطويرٍ إلى استعراضٍ للأداء.
ومع مرور الوقت، تتآكل ثقة الناس بما يُعلَن، لأنهم يرون بأعينهم ما لا يجدونه في البيانات الرسمية. فالمواطن الذي ينتظر خدمةً أو مشروعًا لا يعنيه عدد التقارير التي أُعدّت؛ بل حجم النتائج التي تحقّقت. والمؤسسة التي تكتفي بتضخيم منجزاتها تُسهم – من حيث لا تشعر – في إضعاف رأس مالها الأهم: الثقة. فالثقة لا تُبنى بالتصريحات؛ بل بالواقع الذي يصدّقها. ومتى ما تحوّلت التقارير إلى غايةٍ في ذاتها، ضاع الهدف الأصيل منها: التطوير.
وعلى الصعيد الإداري، لا يكمن الخطر الأكبر في تجميل الأرقام؛ بل في القرارات التي تُبنى عليها. فحين تعتمد القيادة على تقاريرٍ منمّقة لا تعكس الواقع بدقّة، تُصبح الخطط قائمةً على وهمٍ جميلٍ بدل حقيقةٍ مؤلمة. وحين تُضلَّل البوصلة بالأرقام المزيّنة، تضيع الأولويات، ويُهدر المال العام في مشروعاتٍ تُصمَّم لمعالجة مشكلاتٍ غير موجودة، بينما تبقى القضايا الجوهرية بلا حل. والأسوأ أنّ غياب الصدق في التقارير يُربك الجهات الرقابية نفسها، فتفقد القدرة على التقييم العادل واتخاذ القرار الصائب. إنها دائرة "الإنجاز الورقي" التي تُنتج "إخفاقًا عمليًا" في ثوبٍ منمّق.
إصلاح هذه الظاهرة لا يحتاج إلى لوائح جديدة، بقدر ما يحتاج إلى ثقافةٍ إداريةٍ صادقة، تعترف بالقصور قبل أن تتغنّى بالإنجاز. فالمؤسسة التي تجرؤ على قول الحقيقة هي الأقدر على التطوير، لأنها تتعامل مع الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يبدو. تبدأ الخطوة الأولى من إعادة تعريف النجاح: ليس بما يُكتب في التقارير؛ بل بما يُلمس في الميدان. وهنا يأتي دور القادة في ترسيخ بيئةٍ تحترم الشفافية، وتكافئ الصدق، وتحوّل التقارير من وسيلةٍ للتجميل إلى مرآةٍ للتقويم. فالمعلومة الدقيقة، وإن كانت مؤلمة، تفتح باب الإصلاح، أمّا المعلومة المزيّفة فتغلقه بإحكام، لتترك المؤسسة تدور حول ذاتها في وهمٍ جميلٍ لا يغيّر من الواقع شيئًا.
ختامًا، لا تُقاس قوة المؤسسات بما تُجيده من تزيين الأرقام؛ بل بما تمتلكه من شجاعةٍ في مواجهة الحقيقة. فالثقة لا تُبنى على الدهاء الإداري؛ بل على الصدق مع الذات والناس. والمؤسسة التي تتصالح مع واقعها- مهما كان صعبًا- تضع أولى خطواتها على طريق التطوير الحقيقي. أمّا التي تكتفي بالتصفيق لتقاريرها، فإنها تسير بثقةٍ نحو المجهول. فالتاريخ لا يدوّن ما قيل في الاجتماعات؛ بل ما تحقق على أرض الواقع. والصدق، وإن أوجع اليوم، يبني غدًا لا يُوجِع أحدًا.
