القيادة التي لا تسمع.. لا تتعلّم!

 

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

 

حين تصمت المؤسسة عن نفسها. لا أحد يسمع أخطاءها وهي تتكرر.

في بعض المؤسسات، لا يُسمع الصوت إلا من الأعلى، وحين يتحدث الموظفون لا أحد يُصغي. يصبح الصمت هناك فضيلةً مفروضة، والكلمة مغامرةً غير مأمونة العواقب. ويُطلب من الموظف ألّا يُبدي رأيًا، بل أن يصمت بأناقة؛ فالرأي يُفسَّر تمرّدًا، والنقد يُعامَل كجريمةٍ إدارية، والكلمة تُقابَل بالحذر وكأنها تهديدٌ للنظام.

وهكذا يتحوّل الصمت تدريجيًا إلى سياسةٍ غير مُعلنة تُزيَّن بشعار «الانضباط»، لكنها تخفي وراءها خوفًا من المساءلة، وضياعًا للأفكار التي كان يمكن أن تُنقذ كثيرًا من القرارات.

وحين يُصبح الصمت أسلوبًا في الإدارة، لا يعود الهدوء دليلًا على الاستقرار، بل علامةً على أن المؤسسة فقدت صوتها الداخلي. ذاك الصوت الذي يُصحّح، ويقترح، ويجرؤ على القول قبل أن يتأخر الوقت.

الصمت في المؤسسات لا ينشأ صدفة، بل يُزرع بالتدريج. يبدأ حين يُهمَّش أول صوتٍ نقدي، ويستمر حين تُغلق الأبواب في وجه من يقترح أو يعترض، ثم يتحوّل مع الوقت إلى سلوكٍ جماعيٍّ يفضّل فيه الناس السلامة على المشاركة. عندها تختفي الحوارات، وتتحوّل الاجتماعات إلى مراسم شكلية تُتلى فيها القرارات بدل أن تُناقش.

إنها بيئة لا تُعاقب الخطأ بقدر ما تُعاقب الجرأة على كشفه، ولا تكافئ الصدق بقدر ما تُكافئ الصمت؛ وهكذا يتكوّن جدارٌ من الخوف، لا تراه في اللوائح، لكنه حاضرٌ في كل التفاصيل، يكمّم الأفواه قبل أن تنطق، ويُطفئ الفكرة قبل أن تولد. وحين يسود الصمت، يخسر الجميع.

فالقرارات تُبنى على نصف الحقيقة، لأن النصف الآخر حُبس في صدور من خافوا الحديث. تتكرّر الأخطاء نفسها، لأن من رآها أول مرة لم يتجرّأ على قولها، ويبهت الإبداع حين تموت الأفكار قبل أن تُولد.

وفي بيئةٍ يخاف فيها الناس من الكلام، لا يتعلّم أحدٌ من الآخر، بل يتقنون فنَّ الصمت أكثر من فنِّ العمل. فكم من فكرةٍ وُلدت في عقل موظفٍ بسيط، لكنها ماتت قبل أن تُقال، لأن الباب كان مغلقًا… والقلب كذلك.

وحين يصبح الخوف من الخطأ أكبر من الرغبة في الصواب، تتحوّل المؤسسات إلى مساحاتٍ هادئةٍ من الخارج لكنها قلقةٌ من الداخل؛ تسير على استقرارٍ ظاهريٍّ يخفي تحته فوضى من التردّد، ويتحوّل فيها الإنجاز إلى واجبٍ روتينيٍّ لا إلى قيمةٍ حقيقية. ويبهت الولاءُ شيئًا فشيئًا، لأن الخوف لا يبني انتماءً، والصمت لا يصنع ولاءً.

فالمؤسسة التي تُطفئ صوت موظفيها تُطفئ نبضها الحيّ معهم، وتتحوّل مع الوقت إلى كيانٍ إداريٍّ بلا روحٍ ولا ذاكرة، تُكرّر أخطاءها بثقةٍ مؤلمة.

كسر الصمت لا يحتاج إلى قراراتٍ عليا، بقدر ما يحتاج إلى قادةٍ يُنصتون. فالقائد الذي يفتح أذنيه قبل فمه يُعيد الحياة إلى مؤسسته من جديد. يبدأ التغيير حين يشعر الموظف أنّ رأيه لن يُحسب عليه، وأن خطأه فرصةٌ للتعلّم لا مناسبةٌ للعقاب. عندها تنكسر الحواجز، ويتحوّل الخوف إلى حوار، وتستعيد الاجتماعات معناها الحقيقي: مساحةً للتفكير لا استعراضًا للنتائج.

فالثقة لا تُبنى باللوائح، بل بالممارسات اليومية؛ بابتسامةٍ تُرحّب بالرأي المختلف، وبكلمةِ شكرٍ تُقال لمن تجرّأ على لفت النظر قبل أن تقع المشكلة.

القيادة التي تحتضن النقد تُنقذ نفسها من الأزمات قبل أن تبدأها؛ فالصراحة المبكرة علاج، بينما الصمت الطويل نزيفٌ مؤجَّل. والقائد الواعي لا يخشى الملاحظات، بل يراها مرآةً تُصحّح الرؤية قبل أن تتّسع الأخطاء. فالإصغاء ليس ضعفًا، بل ذروة القوة حين يُمارس بثقةٍ وعدالة.

وفي نهاية المطاف، لا يُخيف المؤسساتَ النقدُ بقدر ما يُضعفها الصمت. فالقائد الذي لا يسمع، يحرم نفسه من فرصة التعلّم قبل أن يُفاجئه الخطأ، ويقود مؤسسته إلى العزلة وهي تظنّ أنها تمضي بثقةٍ في طريقٍ خاطئ.

أمّا القيادة الواعية، فهي التي تُدرك أن أعظم القرارات تبدأ بكلمةٍ صادقةٍ قالها موظفٌ لم يُقاطعوه. فالحوار ليس رفاهيةً إدارية، بل خطَّ الدفاع الأول عن جودة القرار واستدامة الثقة. فالقائد الذي يُنصت لا يسمع الكلمات فحسب، بل يسمع نبض مؤسسته في أصوات أهلها.

وحين تُصغي القيادة بصدق، تُنقذ نفسها من التكرار، وتكتب بآذانها مستقبلًا أذكى وأصدق. فالقيادة التي تسمع… تتعلّم، والتي تتعلّم… تبقى.

الأكثر قراءة