حين تنسى المؤسسات دروسها

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

في كل مؤسسةٍ قصةٌ تتكرّر بأسماءٍ مختلفة؛ قرارٌ يُعاد طرحه بعد أن فشل سابقًا، ومشروعٌ يُنفَّذ وكأن التجربة الأولى لم تكن، ولجنةٌ تبحث في قضيةٍ سبق أن حُسمت من قبل. تتبدّل الوجوه، لكن الأخطاء تبقى كما هي، لأن الذاكرة المؤسسية غائبة، والدروس تُنسى مع تعاقب المسؤولين. وحين لا تتوارث المؤسسات خبراتها، تتحوّل الدوائر إلى مسرحٍ يعيد المشهد ذاته في كل دورةٍ وظيفية، فتُهدر طاقة الوطن بين التكرار والنسيان.

ومن هنا تبرز أهمية الذاكرة المؤسسية؛ فهي ليست أرشيفًا من الملفات أو مجلداتٍ منسية، بل هي خبرةٌ متراكمة تحفظ هوية المؤسسة وتضمن تطوّرها. إنها الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر، ويمنح صانع القرار القدرة على التعلّم لا التكرار. وحين تغيب هذه الذاكرة، تُعاد دراسة القضايا وكأنها تُطرح للمرة الأولى، ويُستبدل التعلّم من الأخطاء بإلقاء اللوم على الظروف. وهكذا تتحوّل المؤسسات التي لا توثّق تجاربها إلى بيوتٍ بلا ذاكرة، تدفع الثمن ذاته مع كل تغييرٍ إداريٍّ جديد، وتعيش في دوّامة البداية الدائمة.

ومع مرور الوقت، يتحوّل غياب الذاكرة المؤسسية إلى هدرٍ صامت؛ تُعاد صياغة الخطط القديمة بأسماءٍ جديدة، وتُشكَّل لجانٌ لمناقشة قضايا سبق بحثها، وتُصرف الموارد على حلولٍ جُرّبت من قبل. وهكذا تدور المؤسسة في حلقةٍ مفرغةٍ من التكرار الذي يُبدّد الوقت والجهد، بينما يظنّ كل مسؤولٍ جديد أنّه يبدأ من الصفر. غير أن الأخطر من ذلك، أن غياب الذاكرة لا يبدّد الخبرة فقط، بل يُضعف الثقة داخل المؤسسة؛ إذ يشعر الموظفون أن تجاربهم لا تُقدَّر، وأن صوت الخبرة يُستبدل في كل مرةٍ بصوت البداية.

وعلى المدى البعيد، لا يقتصر أثر غياب الذاكرة المؤسسية على الأداء فقط، بل يمتد ليصيب روح الإبداع والاستدامة في جوهرها. فالمؤسسة التي تتذكّر تجاربها تنمو بذكاء؛ لأنها تبني الجديد على ما تعلّمته، لا على ما نسيته. أمّا حين تُمحى الذاكرة مع كل تغييرٍ إداريٍّ، يفقد الموظفون شعورهم بالانتماء، ويتعاملون مع العمل كمرحلةٍ مؤقتة لا كرسالةٍ مستمرة. وهكذا تتحوّل بيئة العمل إلى دوائر معزولة، فيتكرّر الخطأ، وتضيع الدروس، ويصبح التقدّم انتقالًا شكليًّا لا معرفيًّا. فالإبداع لا يولد من الصدفة، بل من التراكم، ومن احترام ما بناه الآخرون قبلنا.

وانطلاقًا من ذلك، جعلت رؤية "عُمان 2040" من الحوكمة المعرفية وتراكم الخبرة المؤسسية ركيزةً لبناء جهازٍ إداريٍّ فعّالٍ ومستدام. فالدولة لا تتقدّم بالخطط وحدها، بل بذاكرةٍ تحفظ ما نُفِّذ وما تحقّق، وما يجب ألّا يتكرّر. ومن هنا تبرز أهمية إنشاء قواعد بياناتٍ تُوثّق التجارب والمشروعات السابقة، وتفعيل برامج نقل المعرفة داخل المؤسسات، حتى لا تغادر الخبرة مع المتقاعدين، بل تُستثمر عبر إشراكهم كمستشارين وناقلين للتجربة. فحفظ الذاكرة المؤسسية ليس عملًا أرشيفيًّا؛ بل استثمارًا في المستقبل يختصر الطريق نحو قراراتٍ أكثر نضجًا وفاعلية.

ختامًا.. إنّ المؤسسات التي تنسى ما تعلّمته تُجبر نفسها على دفع الثمن ذاته في كل مرة؛ فالأخطاء لا تتكرّر صدفة، بل لأننا لم نحفظ دروسها كما يجب. والذاكرة المؤسسية ليست خيارًا ثانويًّا، بل ركيزةُ وعيٍ تنظيميٍّ تحمي من الهدر وتمنح القرار نضجه. وحين تُكتب الدروس وتُتداول الخبرات، تتراكم المعرفة وتترسّخ الثقة، ويغدو التغيير مسارًا للتقدّم لا حلقةً مفرغة من البدايات؛ فالأوطان التي تتذكّر تجاربها، تصنع مستقبلها بثقة، ولا تضلّ طريقها مهما تغيّرت الوجوه.

الأكثر قراءة