مدرين المكتومية
تابعنا منذ يومين صدور مُلخص المجتمع 2024 عن جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، وهو نهج تشاركي قام به الجهاز ليقدم كل ذلك بين يدي المجتمع، حتى يشعر المجتمع أنه جزء لا يتجزأ أيضا من مسألة المكاشفة بالتجاوزات والمخالفات التي تقوم بها عدد من المؤسسات الحكومية، خاصة تلك الخدمية منها والتي تشكل جزءا أساسيا من هاجس المجتمع.
وقد أفرز التقرير عددًا كبيرًا من التجاوزات الإدارية والمالية والمخالفات التي قام بها عدد من المؤسسات؛ الأمر الذي يعيد طرح نفسه في كل مرة وهو "كيف نصنع فاسدًا؟" هل يولد هذا الفساد مع الفرد نفسه أم أن البيئة الوظيفية هي التي تتسبب فيه وتُشكِّله؟ الإجابة قد تكون صعبة، لكن قد يرى البعض أنها بسيطة ويمكن تلخيصها في "صلاحيات مطلقة، وغياب القيم الأخلاقية، ومواقع بلا رقابة".
إن دور جهاز الرقابة المالية والإدارية لا يقل أهمية عن دور القضاء في حماية المال العام وضمان النزاهة المؤسسية؛ فهو يؤدي عمل خط الدفاع الأول في ذلك، ويعول عليه كثيرًا، خاصةً وأنه يُقلِّل من التلاعب وتصرف كل مؤسسة بمزاج القائمين عليها؛ بل إنه يساهم بصورة كبيرة في إشعار المؤسسات أن هناك من لديه الحق في المسألة والبحث وتقصِّي الدقة والكشف عن المستور، واستخراج نقاط الخلل، وتحري جوانب الفشل والقصور، لذلك فإن دوره مُهم للغاية، خاصة وأن غيابه يجعل الطريق نحو الفساد مغريًا ومُعبَّدًا لمن يُريد أن يسلُكه.
كل شيء في الحياة يبدأ صغيرًا ثم يكبر، وكذلك الحال مع الفساد لا يبدأ بسرقة كبيرة؛ بل بخطوة صغيرة وبسيطة تتعاظم حين يغيب عنها الردع والمساءلة، وبذلك يصبح الأمر عادة، والعادة تجعل الشخص يتساهل ما يقوم به من أفعال، والتساهل يقود لصناعة ثقافة بعينها، وهذه الثقافة تولد موظف يجد نفسه جزءًا من شبكة مصالح يصعب الخروج منها مع الوقت.
حين يقرر شخص أن يسلك هذا الطريق فهو بالتأكيد سلكه مع سبق الإصرار والترصد، لأنه لم يقرر ذلك في لحظة ولكن بعد أن وجد كل الأبواب أمامه مشرعه ليختارها، فالفاسد حتى وإن كان يعاني من قصور أخلاقي وضعف في الوازع الديني، إلّا أن منحه الصلاحيات الواسعة دون ضوابط واضحة، مع وجود ضعف في الرقابة، وتراكم الضغوطات الاقتصادية عليه وشعوره بالنقص ربما، وعدم قدرته على مواجهة ظلم يمارس عليه في بيئة العمل يساهم في وجود موظف يشعر بأن السلوك الذي يقوم به ما هو إلا جزء من حقه حتى وإن كان بطرق غير قانونية.
وعند الكشف عن هذه التجاوزات في هذه المؤسسات، فإنَّ الرد من الجهات المعنية يجب أن يكون مباشرًا وواضحًا دون أي اعتبارات ومراوغة ودون أي تبريرات؛ لأن تلك التجاوزات واضحة واتخاذ الإجراءات اللازمة ضدها مهم جدًا في ظل الحديث عن الشفافية؛ فالمواطن له الحق الكامل بمعرفة مجريات ما يحدث، والإجراءات التي اتخذتها الجهات المعنية في حماية المال العام، وصون حقوقهم، خاصة وأن الصمت عن ذلك وتجاهل الإعلان عنها لا يحمي سمعة تلك المؤسسات؛ بل يوسع دائرة الشكوك ويرفع من ضعف الثقة بين الحكومة والمجتمع، ويزيد اللغط اتجاه القرارات التي تقوم بها حتى وإن كانت تصب في مصلحة الوطن والمواطن.
وحول ما تم نشره في التقرير، نجد على سبيل المثال قيام عدد من موظفي إدارة البيئة بمحافظة الوسطى بارتكاب جريمة استغلال مناصبهم وتحقيق منفعة لهم وللغير والتربح من الوظيفة من خلال تجاوز الصلاحيات والاختصاصات في التصريح لنقل مواد ردمية دون الحصول على موافقة من الجهات المختصة وعدم إصدار المخالفات البيئية. وفي إحدى شركات الاتصالات أقدم أحد الموظفين على ارتكاب جريمة إساءة استعمال وظيفته لتحقيق منفعة شخصية له؛ وذلك باختلاس جانب من الأموال العامة واستعمال محررات مزورة تمثلت في قيامه بإجراء عدد من المعاملات المتعلقة باسترجاع مبالغ الضمان. وقيام أحد موظفي بلدية صحار بارتكاب جريمة استغلال المنصب والتربح من الوظيفة من خلال تحرير وضبط عدد من المخالفات الإدارية على بعض مؤسسات القطاع الخاص في نطاق اختصاص دائرة البلدية في ولاية صحار، واستلام مبالغ تلك المخالفات نقدًا دون توريدها.
إنَّ هذه النماذج ليست سوى عينة من مشهد أكبر ومن تجاوزات لا يمكن السكوت عنها، ومن هنا تبرُز أهمية إشراك المجتمع في فهم هذا التقرير ومتابعة التنفيذ؛ فالمساءلة لا تكتمل دون وعي مجتمعي يُطالب بالإصلاح والشفافية، كما يجب ألا تقتصر العقوبات على الموظف الذي ارتكب الفعل وحده؛ فالمسؤول الذي سمح أو تجاهل أو صنع بيئة خصبة للفساد، شريك أساسي وأصيل في الجريمة. وعلينا أن نعلم أن مكافحة الفساد تبدأ من الأعلى، من ثقافة المؤسسة أولًا، والقدوة التي تقدمها الإدارة العليا أخيرًا؛ فالفاسد لا يظهر من فراغ وإنما يُصنع بالغفلة وغياب الرقابة والمحاسبة، وحتى لا نصنع المزيد من هؤلاء الفاسدين، علينا أن نغرس قيم النزاهة في كل إنسان؛ لأن ما يرشح إلى السطح، يؤكد أن ما خفي أعظم!!