حين ضحكت العبارة

 

 

وداد الاسطنبولي

شعورٌ رائع أن تتحوّل بعض العبارات، وإن حملت في طيّاتها شيئًا من الألم أو السخرية بوقعها على المسامع، إلى شرارة تأمل. فبعض الكلمات يفور دمك منها، أو تغيّر ملامحك، أو تجعلك تتذمّر من قائلها، ومع ذلك تبقى عالقة في الذاكرة.

الغريب أنَّي سمعت مقولة مليئة بالسخرية فقادتني هذه العبارة إلى التأمل والتعلّم.

اسمعوا:

مكتبي يُلاصق مكتب زميلي في شعبة المشتريات، وتعودتُ منه بعض المهاترات واللفتات التي تذيب الثلج وتزعج الخاطر أحيانًا، ويشهد الله أني اعتدتُ على ذلك. ربما الروتين اليومي يرسم هالة سلبية عند البعض. في البداية كانت ردة فعلي نصف ابتسامة، ثم صرت أجاريه فيما يقول كلما وجدتُ عبارة تليق أو تتساوى مع عباراته. إلا أنَّ هذه العبارة بالذات نفذت إلى ذهني، والتقطها عقلي، ورست في ذاكرتي. أرددها مرارًا وأضحك بقوة كلما أفاقت من نومها في نفسي.

وكما قلت آنفًا، تدعو بعض العبارات إلى التأمل. وبالفعل، جعلتني هذه المقولة أتأمل أسبوعًا كاملًا، تثير ابتسامتي كلما تذكرتها. وكلما رأيت زميلي في الممرات أقول له: "ماذا قلت ذاك اليوم؟" فيبتسم ويقول: "أعجبتك!".

أرد: "نعم".

ويرددها ضاحكًا، بينما أتعلم أنا من خلفها أن بعض العبارات يختبئ وراءها وجع إنساني، أو يأس، وربما عجز أمام تعقيدات الحياة.

لقد فتحت مقولته مساحة للكتابة، والحمد لله أنه يتلفظ بها بفكاهة ليخفّف بها توتره الداخلي.

أتضحكون على المقولة؟ أم تتأملونها مثلي؟

يقول:" إذا لم تستطع إسعاد نفسك، فعكّر مزاج الآخرين".

وبما أني أعمل في مكتب خدمي وأرى أصنافًا من النَّاس وأنواعًا من العقليات، كنت أرد أحيانًا سريعًا قائلة:

"إلا أنا، يكفيني ما فيني! ما هذه الأنانية التي تريد أن تسحبني بها إلى حزنك؟"

ثم أبتَسِم.

لكن حين تأملتها وجدتُها مفارقة ساخرة، نعم، لكنها أيضًا مرآة لحال الكثيرين. شعور جميل أن تتذمّر ثم تبتسم ثم تتأمل. فليست كل الكلمات دعوة حقيقية لإيذائنا، بل أحيانًا هي سلوك سلبي لا يعرف أصحابه كيف يصنعون السعادة لأنفسهم.

في الحقيقة، كثيرون يمرّون بهذه الحالة دون أن يدركوها؛ يظنون أنهم يمزحون أو يفرّغون ضجرهم بكلمة عابرة، لكنهم في العمق يعلنون حاجتهم لمن يشاركهم العجز عن الفرح. وكأنّ النفس حين تثقلها الحياة تبحث عن توازنها، لا بالابتسامة؛ بل بتوزيع ما تحمله من عُتمة على الآخرين. والمفارقة أن هذا "التعكير" يصبح وسيلة غير مباشرة للتنفيس؛ فبدل أن يصرخ المرء: "أنا متعب"، يطلق نكتة لاذعة تصيب من حوله بعدوى المزاج.

وربما لا نحتاج أن نعكّر مزاج أحد، بل أن نربّت على كتف أنفسنا، ونمنحها بعض العذر؛ فهذا هو السبيل السليم في هذا الزمن، فالضجر والأفعال السلبية ليست طريقًا للراحة، مهما توهّمنا ذلك.

الأكثر قراءة