الدولة ومكافحة الفساد

حاتم الطائي

الشفافية والمساءلة عنصران أساسيات في جهود مكافحة الفساد

ضرورة تبني استراتيجيات وطنية للتوعية بأهمية الحفاظ على المال العام

مكافحة الفساد مسؤولية وطنية تشاركية لتحقيق الازدهار والرخاء

 

الفسادُ آفةٌ كريهةٌ تُصيبُ جسدَ الدولةِ والمؤسساتِ بالوهنِ والضَّعفِ، وهي ناقلة لهذا المرض العُضال؛ فالفاسد يُفسِد من حوله، ولذلك من الواجب دائمًا عند مكافحة الفساد أن تُجتث هذه الآفة تمامًا، من خلال القضاء على الأسباب التي قد تساعد على الفساد، وفي مُقدمتها غياب الأدوار الرقابية أو تراجعها.

ومنذ إنشاء جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، يمضي وطننا في جهود اقتلاع الفساد من جذوره، عبر منظومات رقابية مُحكمة، تتولى أمرها كفاءات وطنية مُخلصة، تعمل ليل نهار على ضمان أن كل ريال يُنفق في مساره القانوني الصحيح، وأن كل مورد مالي يُحقق النفع العام المطلوب، والأهم أنَّ كل فاسد سيلقى جزاءه الذي يستحقه.

ولا يستقيم الحديث عن مكافحة الفساد دون إبراز دور الشفافية والمساءلة في الحد من هذه الممارسات الضارة بالوطن، وهنا نُشير إلى التقرير السنوي الذي اعتاد جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة أن يُصدره، تحت اسم "مُلخَّص المجتمع"، والذي يُفصح فيه عن أبرز جرائم الاعتداء على المال العام، من رشى واختلاسات واستغلال نفوذ وغيرها؛ بل ويذهب لأبعد من ذلك، ويشرح بالتفصيل عمليات التلاعب التي يقوم بها بعض ضعاف النفوس ويسعون لاستغلال أي ضعف رقابي أو ثغرات قانونية، للولوج إلى أنفاق الفساد المُظلمة. وإنها لسُنة حميدة أن يُحافظ الجهاز على إصدار هذا المُلخص سنويًا، لكي يُدرك المجتمع الجهود الحثيثة التي يبذلها القائمون على أمر حماية المال العام، وأيضًا لنعرف أنَّ أي مجتمع ليس مجتمعًا ملائكيًا، وأن الفساد كما نراه في دول أخرى، هو موجود بيننا، وهذه طبيعة النفس البشرية التي ألهمها الله "فجورها وتقواها"، لكن الفائز الحقيقي هو الذي يُفلح في تزكية النفس من الشرور، وتجنُب الوقوع في المخالفات.

وبالتوازي مع هذا النهج الشفاف، لا بُد من تبني استراتيجيات وخطط عمل وطنية تُساعد على نشر التوعية بأهمية الحفاظ على المال العام وصون مُقدرات الوطن؛ حيث إنَّ هذه المقدرات ليست ملك شخص أو جهة بعينها، وإنما هي ملك لكل مواطن، ومُسجّلة باسم هذا الشعب الأبي. ومن شأن التوسع في تنظيم حملات توعوية لمختلف فئات المجتمع، أن يحد من قضايا الفساد، لا سيما إذا ما بدأت هذه الحملات من المدارس؛ حيث النواة الأولى لغرس القيم الإيجابية في نفس كل طالب وطالبة. وخيرًا يفعل جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، بتنظيمه للعديد من الحملات وورش العمل التي تحث على حماية المال العام، والتعريف بالإجراءات العقابية للمُخالفين، لكن نعتقد أنَّ الأمر ما يزال يحتاج المزيد من الجهود، من أجل ترسيخ قيم النزاهة.

والنزاهة هنا لا تعني فقط عدم مُخالفة القوانين، وإنما التحلي بضمير حي ويقظ، قادر على التزام الأمانة في العمل بكل إخلاص، مؤمنًا بأنَّ الاعتداء على بيسة واحدة بمثابة وضع اليد في النار، وأن أي تأخير في إنجاز العمل يتسبب في خسارة المال العام. النزاهة لا تعني فقط عدم قبول الرشوة أو تجنب الاختلاس، ولكنها تعني أنَّ هناك موظفًا يحرص على أداء مهامه دون التفكير في تحقيق أية منافع شخصية له أو لأيٍ من معارفه.

ولا شك أنَّ تطبيق قيم النزاهة والمساءلة والشفافية يهدف إلى بناء الثقة بين المجتمع ومؤسسات الدولة، وبين المواطن والمسؤول، في إطار ما بات يُعرف بـ"دولة المؤسسات والقانون"، التي لا مجال فيها لأية مجاملات على حساب الوطن، ولا اعتبارات اجتماعية سوى الالتزام بتطبيق صحيح القانون، على المسؤول الكبير قبل الصغير؛ فرئيس الوحدة الذي تثبت مخالفته للأنظمة والقوانين، مثله مثل الموظف الصغير المسؤول عن نقل الملفات من مكتب لآخر. وهنا يجب أن نوضح أنَّ الفساد لا ينحصر في أشكاله المعروفة لدى البعض؛ لأنَّ هناك فساد الذِمم، الذي ينعكس في تغيب الموظف عن مكتبه لساعات طويلة، ربما يقضيها بحجة تناول وجبة الإفطار، أو تكرار الاستئذان من مقر العمل قبل انقضاء ساعات الدوام الرسمي بفترات طويلة تحت ذريعة "الدرب طويل ومزدحم"، أو هذا الموظف الذي يُماطل في إنجاز مُعاملة أحد المواطنين لأسباب شخصية بحتة!

ويبقى القول.. إنَّ مكافحة الفساد مسؤولية وطنية تشاركية، لا يقع عبؤها على جهاز بعينه، ولكن كل فرد في هذا الوطن مسؤول مسؤولية مباشرة عن ذلك، بالتوازي مع جهود تعزيز النزاهة في المجتمع، وتغليظ العقوبات الرادعة، وترسيخ قيم الشفافية، وتأكيد الشراكة الوطنية في صون المال العام وحماية ما تحقق من مُكتسبات، لكي تبقى عُمان مُزدهرة وفي تقدُّم ورخاء.

الأكثر قراءة