خالد بن حمد الرواحي
حين يُذكَر الفساد، يتبادر إلى الأذهان فورًا مشهدُ المال المسروق، أو الصفقة المشبوهة، أو الرقم الذي اختفى من بندٍ في الميزانية. غير أن أخطر أشكال الفساد لا تُقاس بالأرقام، ولا ترصدها تقارير الأجهزة الرقابية؛ لأنها لا تُسرق من الخزائن… بل من القلوب. إنه الفساد الذي يسطو على أحلام الناس، ويستنزف مستقبلهم بصمتٍ لا يترك أثرًا، لكنه يترك وجعًا طويل الأمد.
ليس كل فاسدٍ من يمدّ يده إلى المال العام؛ لكن هناك من يمدّ يده إلى الفرص. فيغلق بابًا كان يمكن أن يُفتح، أو يُؤخِّر قرارًا كان يمكن أن يُنقذ، أو يُفرغ منصبًا من معناه حين يُسلَّم لغير أهله. هذا النوع من الفساد لا يترك أثرًا محاسبيًا مباشرًا، لكنه يخلّف جيلًا محبطًا، وطاقاتٍ معطّلة، وثقةً تتآكل ببطء.
حين يُحرَم شابٌّ من فرصة عملٍ عادلة، لا لقصورٍ في كفاءته؛ بل لغياب العدالة، فذلك شكلٌ صريحٌ من أشكال الفساد. وحين تُدار الملفات بعقلية التجاهل لا المسؤولية، ويُترك الناس معلّقين بين وعودٍ لا تُنفَّذ وقراراتٍ لا تُشرح، فإن المستقبل نفسه يُدار على الهامش. هنا لا يُسرق المال، بل يُسرق الأمل.
الفساد الأخطر هو ذاك الذي يُقنِع الناس بأن الجهد لا جدوى منه، وأن النزاهة عبء، وأن الطريق الأقصر ليس الأجدر؛ بل الأقرب إلى النفوذ. عندها لا نخسر مشروعًا أو وظيفةً فحسب، بل نخسر المعنى الذي يجعل العمل شريفًا، والالتزام قيمة، والوطن مساحة أمانٍ وثقة.
ويُمارَس هذا الفساد غالبًا بوسائل ناعمة لا تثير الشبهات؛ قرارٌ يُؤجَّل بلا مبررٍ واضح، وملفٌّ يُرحَّل من مكتبٍ إلى آخر حتى يفقد صاحبه القدرة على المتابعة، أو معايير تُبدَّل بصمت لتناسب أسماءً بعينها. لا أحد يوقّع على سرقة، ولا يُمسك أحدٌ متلبسًا، لكن النتيجة واحدة: فرصةٌ ضاعت، وطموحٌ انكسر، ورسالةٌ خفية تقول إن الطريق لا يسير دائمًا نحو الأكثر كفاءة.
وهنا تتجاوز المسؤولية حدود النصوص واللوائح إلى البعد الأخلاقي للمنصب. فالموقع العام ليس امتيازًا شخصيًا؛ بل أمانةٌ مؤقتة تتصل بمصائر الآخرين. وكل قرارٍ لا يراعي أثره على المستقبل، وكل صمتٍ في موضع واجب، وكل تبريرٍ لخللٍ واضح، هو مشاركةٌ غير مباشرة في استنزاف ما لا يُعوَّض: ثقة الناس في العدالة، وإيمانهم بأن الغد يمكن أن يكون أفضل من اليوم.
وفي المقابل، فإن مكافحة هذا النوع من الفساد لا تبدأ بالمحاسبة وحدها، بل بإعادة الاعتبار للإنسان في قلب القرار. تبدأ بالشفافية، وبشرح الخيارات، وبربط السلطة بالمسؤولية، وبمنح الفرص على أساس الكفاءة لا القرب، وبإشراك الناس- قدر الإمكان- في القرارات التي تمس حياتهم مباشرة، والاستماع إلى آرائهم، ودراستها بجدية قبل المضي فيها. فحماية المال العام لا تنفصل عن حماية أحلام الناس؛ لأن المال، بلا إنسانٍ منصف، يتحول إلى أداة إقصاء لا تنمية.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه الدول ليس عجز الموازنات؛ بل عجز الثقة. وحين يشعر الناس أن مستقبلهم يُدار بعدالة، تصبح القرارات الصعبة مفهومة، وحتى التضحيات تُحتَمَل. أمّا حين يُسرق الحلم، فكل رقمٍ، مهما بدا سليمًا، يخفي خلفه خسارةً لا تُعوَّض؛ لأن الأوطان لا تُبنى بما نملكه فقط؛ بل بما نمنحه للناس من أملٍ وعدالة.
