د. عبدالله الأشعل **
ملحمة غزة تشتمل على الكثير من المصطلحات التي يجب تحريرها وضبطها، فملحمة غزة كشفت أشياء كثيرة، وخصوصًا يوم 7 أكتوبر 2023؛ حيث أدركت إسرائيل أن الثغرات كثيرة جدًا في المجال العسكري والأمني، وأن حماس قررت تحرير فلسطين من إسرائيل، ولذلك فإن المحاور الأساسية لقوة إسرائيل قد انهارت، ثم شنت حربًا طويلة، حرب إبادة. وفي الواقع، بعض المصطلحات لا بد من تحريرها وضبطها.
أولاً: فكرة الحرب على غزة
الحرب على غزة التي تبنتها أجهزة الإعلام العربية في الحقيقة ضعيفة جدًا، والصحيح أنها حرب الإبادة في غزة.
ثانيًا: وقف إطلاق النار
وقف إطلاق النار يكون بين جيشين تابعين لدولتين، إنما بين المقاومة المشروعة وبين إسرائيل الغاصبة لا يكون وقف إطلاق النار، إنما يتم الإشارة إلى حملة الإبادة الإسرائيلية. وبعد ذلك لاحظت أن فكرة وقف الحرب واستئناف الحرب فكرة شائعة في الأدبيات الإسرائيلية، ولذلك لا بد من تصحيحها للرأي العام العالمي والعربي. فإسرائيل تبيد غزة من طرف واحد.
ثالثًا: فكرة الهدنة (truce or armistice)
الهدنة لا تكون إلا بين جيشين، والهدنة لها معنيان: معناها وقف القتال بين جيشين وقفًا مؤقتًا أو دائمًا يؤدي إلى السلام أو يؤدي إلى المفاوضات. فالوقف إجراء عسكري، والهدنة إجراء عسكري، ولا تكون بين المقاومة وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي. ومعنى ذلك أن إسرائيل ملزمة بوقف حملة الإبادة، بينما المقاومة لا توقف حقها المشروع في المقاومة.
رابعًا: الاحتلال
الاحتلال يكون للدولة، مثل أمريكا وإنجلترا احتلتا العراق، لا يُطالَبان بإحلالهما محل العراقيين. ولكنَّ إسرائيل تجسيدٌ للمشروع الصهيوني، ولذلك لا يمكن وصف الاحتلال بأنه احتلال عسكري؛ بل هو مقدمة لإبادة السكان وتفريغ فلسطين من أهلها حتى يحتلها الصهاينة.
خامسًا: تأكيد الفرق بين اليهودية والصهيونية
لاحظنا أن نتنياهو في كلمته أمام الأمم المتحدة ركز على اليهود واليهودية ويتمسح باليهودية. اليهودية تعتبر شريعة مقدسة وتعد جزءًا من شريعة الإسلام، ولذلك لو كانوا يهودًا حقًا ما أقدموا على بناء إسرائيل، ولو كانوا يهودًا حقًا ما تصرفوا في بشر كالذي حدث في أحوال الإبادة في فلسطين. هم مجموعة من اللصوص جاءوا تطبيقًا للمشروع الصهيوني، وهو المشروع السياسي، وفرض بالقوة على المنطقة العربية.
سادسًا: أعمال الإبادة
أعمال الإبادة التي ساهمت فيها الولايات المتحدة، وثبت أن مؤسسات النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية منحازة لإسرائيل، ولذلك توحشت إسرائيل بفضل الولايات المتحدة. الولايات المتحدة خالفت القانون الدولي في أكثر من موقع، ولذلك فإن سلوكها يدعو إلى الفوضى في العلاقات الدولية، وإلى تضحية المجتمع الدولي بالقواعد القانونية التي استقر عليها والتي كانت تركة عبر القرون. ولذلك واجب المجتمع الدولي أن يدافع عن القانون الدولي الذي تكرّس خلال هذه القرون ضد الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة ارتكبت جرائم، وأداتها إسرائيل؛ مما يعني أنها ليست فقط متواطئة مع إسرائيل، وإنما هي تنفذ الجرائم بيد إسرائيل، فتعطي القنابل والأسلحة الفتاكة لإسرائيل حتى تنفذ مخططها الإجرامي.
ولذلك فإن أعمال الإبادة لا تحتاج إلى نية، هناك نية مبيّتة في المشروع الصهيوني، وهو إبادة السكان الأصليين، وإفراغ فلسطين من أهلها عن طريق الإبادة، ثم تُخلّص فلسطين للصوص الجدد الذين يتربعون على أرض فلسطين.
سابعًا: الأسير والمخطوف
درجت إسرائيل على تسمية أبنائها لدى حماس "المخطوفين"، بينما أسمت الفلسطينيين في سجون الاحتلال "أسرى"، والفرق بين الأسير والمخطوف كبير في القانون الدولي؛ لأن الأسير هو من خاض حربًا ومرض أو اعتُقل وسلّم نفسه، واتفاقية جنيف الثالثة تضع قواعد التعامل مع أسرى الحرب.
والواقع أن الفلسطينيين ليسوا أسرى، وإنما معتقلون بحكم هيمنة إسرائيل العسكرية على فلسطين، والمعتقل يجب أن يُحاكم وتتوفر له جميع فرص الدفاع، وليس من اختصاص المحاكم الإسرائيلية محاكمتهم في القانون الدولي، وأكدته المحكمة الدولية في رأيها الاستشاري في الأسبوع الثاني من أكتوبر 2025.
أما أبناء إسرائيل لدى حماس فيُعتبرون مخطوفين، والخطف في اتفاقية نيويورك، وفقًا للمادة الثانية عشرة، مسموح للمقاومة انطلاقًا من مشروعيتها، فلا يجوز لإسرائيل أن تتذرع باستمرار المقاومة وعملية رفح بالذات لتتهم حماس بأنها انتهكت الاتفاق لكي تستأنف أعمال الإبادة. ووقف أعمال الإبادة في القانون الدولي لا يحتاج إلى اتفاق ومقابل، ولكنه التزام على الدولة إذا أرادت أن تكون عضوًا في أسرة الأمم المتمدنة.
ولذلك لا يشمل الاتفاق وقف أعمال المقاومة، لأن المقاومة رد فعل، والعدوان هو الفعل.
وقد شرحنا من قبل أن وقف إطلاق النار صفة لا تجوز ولا تنطبق على العلاقة بين المقاومة وإسرائيل، فإسرائيل غاصبة، والمقاومة تدافع عن أرضها ضد هذا الغصب.
ثامنًا: الجثث الفلسطينية والإسرائيلية
تُصر إسرائيل على استرجاع الجثث الإسرائيلية، ولا يلتفت العالم إلى الجثث الفلسطينية التي قتلتها إسرائيل رميًا بالرصاص، ولا بد من تشكيل لجنة تحقيق، تحقق في ظروف اعتقالهم وقتلهم. وقد سبق أن شرحنا في مقال سابق الفرق بين معاملة إسرائيل للمعتقلين الفلسطينيين وبين معاملة المقاومة لأسراها، وهذا هو الفارق بين اللص الذي وثب على هذه المنطقة بمؤامرة دولية، وبين المقاومة التي تؤمن إيمانًا مطلقًا بحقها والدفاع عنها، وكذلك ثقتها بنصر الله الذي وعد المؤمنين بها.
ولذلك فإن سلوك المقاومة اتجاه الأسرى سلوك إسلامي صحيح، فلا نندهش إذا دخل الملايين الإسلام بسبب ذلك، ولا نندهش كذلك لاعترافات الأسرى الإسرائيليين لدى حماس الذين أكدوا على سلوكها المتحضّر، مقابل سلوك إسرائيل البربري اتجاه المعتقلين الفلسطينيين، لدرجة أن كثيرًا من الذين أُعيد اعتقالهم كانوا من المحررين وفقًا لاتفاقات سابقة، وهؤلاء لهم حصانة لا يجوز إعادة اعتقالهم لأي سبب.
تاسعًا: إعادة إعمار غزة
لا يجوز التبرع المصري لإعادة إعمار غزة، فإسرائيل وأمريكا هما اللتان دمرتاها، وعليهما مسؤولية إعادة الإعمار. كما أرجو أن تمتنع دول الخليج عن المساهمة في هذا الإعمار، وفي هذه الحالة إذا أرادت، يكون ذلك مع السلطة وليس باتفاق مع إسرائيل وأمريكا، حفاظًا على أموال الشعوب العربية، لأن هذه الأموال ملك لهذه الشعوب، وليست ملكًا للحاكم يتصرف فيها لصالح كرسي الحكم، فالوطن والشعب أحق بهذه الأموال. وهذه النتيجة نابعة من أن الثروات في أي دولة ملك للشعب، وأن الحاكم مجرد مدير لهذا الوطن، فإذا استخدم الثروات لصالحه الشخصي وجب ردها، بعد أن كشفت ملحمة غزة كل شيء.
عاشرًا: المقاومة والإرهاب
ذكرنا في مقال سابق أن المقاومة، حتى لو استخدمت الإرهاب، مشروعة تطبيقًا لقول القرآن الكريم: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". ويجب على الجامعة العربية أن تصدر قرارًا تبرّئ به المقاومة الشريفة من الإرهاب، لأن موقف الجامعة العربية في السابق كان متأثرًا بموقف أمريكا وإسرائيل، ولذلك أصدرت الجامعة العربية قرارًا بالتسوية بين المقاومة التي هي شرف الأمة، والإرهاب.
وهذه سردية إسرائيلية، فكل من يقاوم الباطل إرهابي، وهذه الصفة كانت مألوفة في جميع العصور، وخاصة ضد إسرائيل، فآن الأوان لكي يفهم العرب إجمالًا عدوهم من صديقهم.
إسرائيل كيان غريب عن المنطقة، إرهابي بحكم طبيعته، وقام على المذابح وإرهاب الفلسطينيين، وأوهم الفلسطينيين بأن طردهم من بيوتهم مؤقت، ولذلك فتحت الدول المجاورة أبوابها لهم كلاجئين، ولم يدركوا في ذلك الوقت حجم المؤامرة عليهم، وأن اللصوص الصهاينة يريدون إبادتهم بمساعدة أمريكا. فمن مال من العرب لإسرائيل آثمٌ قلبه، ووجب نصحه وردّه للحق.
** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا
