العقول الفارغة

 

 

 

حمود البطاشي

العقول الفارغة ليست كما يتوهّم المنغلقون على ذواتهم، ولا كما يصوّرها المتعصبون الذين لا يرون في المثقف سوى مثيرٍ للجدل، ولا في الكاتب سوى باحثٍ عن مجدٍ زائل. فالعقل الفارغ ليس ذاك الذي يكتب وينشر ويبحث عن النفع العام، بل هو الذي يقف متفرجًا، يلوك ما يسمع دون أن يُعمل فكرًا أو يقدّم رأيًا.

العقول الفارغة الحقيقية هي التي تخشى الفهم، وتخاف من النور، وتأنس بالظلام لأنها اعتادت العيش فيه. هي التي ترى في كل فكرة تهديدًا، وفي كل رأيٍ تحررًا مريبًا. لا تُدرك أن الأمم لا تنهض إلا حين تُفتح النوافذ للعقول الحرة، وحين يُترك للفكر أن يقول كلمته بلا خوفٍ أو وصاية.

ما أكثر من يُنكرون على الكلمة قوتها، وهم يجهلون أنّ الكلمة كانت أول خلق الله في وحيه: "اقرأ". الكلمة التي تبني وتهدم، تُحيي وتميت، تُوقظ الشعوب أو تُخدرها. ومع ذلك، تجد من يسخر من الكاتب، ويُهاجم المثقف، ويُقلل من شأن من يكتب لأجل الوعي، وكأنَّ التفكير جريمة، وكأنَّ الحرص على الوطن ذنبٌ يُستغفر منه!

العقول الفارغة هي التي تمضي في الحياة بلا أثر، تتغذّى على الشائعات، وتعيش على فتات العقول الأخرى. تراها تتحدث كثيرًا، لكن كلامها كغبارٍ في الريح، بلا وزن ولا عمق. تُهاجم ما لا تفهم، وتكره من يُضيء، لأنها تخاف أن يُكشف عجزها أمام وهج الحقيقة. هي كالأواني الفارغة، تُحدث ضجيجًا أينما وُجدت، بينما العقول الممتلئة صامتة، لأنَّ الامتلاء لا يحتاج إلى صخب.

أما العقول الواعية، فهي التي تعرف أن الفكر مسؤولية، وأن الكلمة سلاحٌ لا يُشهر إلا للحق. لا تكتب بحثًا عن تصفيق، بل عن ضميرٍ حيّ. لا تخشى النقد، لأن الوعي حصنها، ولا تبتغي من النقاش انتصارًا شخصيًا، بل انتصارًا للحقيقة.

وللأسف، في زمانٍ كثر فيه الصخب وقلّ فيه العمق، صار البعض يظن أن المثقف متعجرف، وأن الكاتب متفلسف، وأن من يُبدي رأيه يسعى إلى تسلّطٍ أو شهرة. وما علموا أن المثقف الحقّ هو الذي يحمل همّ المجتمع على كتفيه، ويتحمل سهام الجهل في سبيل أن يُبقي جذوة الوعي متقدة.

إنّ الأمم لا تُقاس بعدد أبنيتها ولا بوفرة مالها، بل بقدرتها على إنتاج فكرٍ ناضج، وبمساحة الحرية التي تمنحها للعقول كي تُبدع. فحين تُحاصر الكلمة، يموت الفكر، وحين يُصادر الرأي، يخبو النور، ويعمّ الظلام، ويعلو صراخ الجهل فوق صوت الحكمة.

فيا من تخافون من الفكر، لا تُطفئوا الشموع لأنكم لا تحتملون الضوء. دعوا العقول تفكر، ودعوا الأقلام تكتب، ودعوا المجتهدين يخطئون، فالأمم التي لا تخطئ لا تتعلم. واحذروا أن تكونوا من أولئك الذين يقفون في وجه النور باسم الدفاع عن الثوابت، فيُطفئون شعلة الوعي بأيديهم وهم لا يشعرون.

العقول الفارغة ليست تلك التي تُكثر من الكلام، بل التي لا تملك ما تقوله. ليست التي تكتب، بل التي ترفض أن تقرأ. أما العقول الراقية، فهي التي تزرع الفكرة كما تُزرع شجرة، لتمنح ظلّها للأجيال القادمة. فاحترموا الكلمة، واحتفوا بالفكر، وامنحوا المساحة لكل من يسعى إلى الخير. لأن الأمم تُبنى بالفكر لا بالصوت، وتنهض بالوعي لا بالولاء الأعمى.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة