فلسفة السوق الحرة

 

 

د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي **

تقوم فلسفة السوق الحرة على مبدأ جوهري أساسي واضح يتمثل في منح الأفراد والشركات الحرية الكاملة في الإنتاج والتبادل والاستثمار دون تدخل وتوجيه مفرط من الدولة. السوق الحر قائم على رؤية اقتصادية تتبنى الإيمان بأن قوى العرض والطلب- لا القرارات الإدارية البيروقراطية- هي وحدها القادرة على تحقيق التوازن الأمثل بين الإنتاج والاستهلاك، بما يضمن الكفاءة والابتكار والنمو المستدام.

وتعكس السوق الحرة في جوهرها ثقة عميقة في قدرة الإنسان على اتخاذ قراراته الاقتصادية بحرية ومسؤولية. فحينما يُترك الأفراد ليبتكروا ويخاطروا بشكل مدروس ويستثمروا وفقًا لحوافزهم ومصالحهم وحاجة السوق، تزدهر المنافسة وينكسر الجمود، ويظهر الإبداع ويتراجع الاحتكار، وتُكافأ الكفاءة والتميز وتختفي المحسوبية والعشوائية. ولذلك هي بيئة تُحفّز الإبداع وتكسر الجمود، لأنَّ كل سلعة أو خدمة تُقيّم وفق قيمتها الحقيقية في نظر المستهلك وحسب نظرية قوى العرض والطلب، لا وفق توجيهٍ وتسعير إداري أو دعمٍ مالي أو لوجستي مصطنع.

ومع ذلك، فإنَّ فلسفة السوق الحرة لا تعني غياب دور الدولة، بل إعادة تعريف لدورها. فالدولة في هذا الإطار ليست متدخلًا مباشرًا في الأسعار أو الإنتاج، وإنما ضامنة للعدالة التنافسية، ومُنظمة لحماية المستهلك والبيئة وحقوق الملكية ومكافحة الاحتكار وغيرها من الممارسات الاقتصادية المشبوهة (كغسيل الأموال، والاحتيال، وتزوير البيانات المالية، والإغراق... إلخ). فحين تغيب القواعد المنظمة التي يجب أن ترعاها الدولة، يتحول السوق إلى ساحةٍ للفوضى والاحتكار والمنافسة غير الشريفة، مما يقوّض المبادئ التي قامت عليها الحرية الاقتصادية نفسها.

لقد أثبت التاريخ أن الاقتصادات التي تبنّت مبادئ السوق الحرة وطبقتها بحكمة ونزاهة- مثل الولايات المتحدة وسنغافورة وكوريا الجنوبية- استطاعت تحقيق قفزات اقتصادية واجتماعية تنموية هائلة، في حين ظلت الاقتصادات المنغلقة والموجهة رهينة القيود والجمود والتوجهات الاقتصادية المتناقضة.

ولعلَّ من نافلة القول التأكيد على أنَّ لُب مبادئ السوق الحرة هي في الأصل حقوق كفلها الإسلام وشرعها (كحماية حقوق المستهلك وسلامته، والعدالة الاقتصادية وتكافؤ الفرص، والشفافية ومكافحة الاحتكار... إلخ). وبالمجمل، يمكننا تبني ما يتناسب ويتوافق وقيمنا الدينية وتطويع ما يمكن تطويعه وفق منهجية واضحة وشفافة.

إنَّ فلسفة السوق الحرة ليست مجرد نظرية أو مُمارسة اقتصادية غربية؛ بل مشروع ورؤية حضارية تؤمن بأن الحرية الاقتصادية هي امتداد طبيعي للحرية الإنسانية التي كفلتها ونظمتها كل الشرائع والأديان، وأن التقدم الحقيقي يولد من الثقة في قدرات الأفراد وقراراتهم لا من وصاية الدولة عليهم وهيمنتها.

** باحث أكاديمي

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة