القلوب الرقمية

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

في عصرٍ تتسارع فيه الحياة وتختصر المسافات بكبسة زر، صار العالم أقرب من أي وقت مضى، لكن القلوب أبعد من ذي قبل. صارت الشاشات رفيقة الدرب، والهواتف جسر التواصل، والرسائل تختصر العواطف في كلمات سريعة ورموز جامدة. ومع ذلك، تبقى تلك الشاشات الزجاجية باردة مهما امتلأت بالألوان، لأنها لا تنقل الدفء الإنساني الذي يسكن اللقاء والنظرة والكلمة.

هل مثلًا يمكن لرسالة نصية أن تُغني عن لقاء الأخ بأخيه، أو الأخت بأخيها، أو الابن بوالديه؟ فمهما كانت الكلمات صادقة، تظل عاجزة عن احتضان الحنين أو نقل نبض المشاعر. فالحضور الإنساني لا يُترجم عبر شاشة، ولا يمكن للرموز التعبيرية أن تحلّ محل دمعة فرح، أو لمسة حنان، أو نظرة تُغني عن ألف كلمة.

لقد تسللت التكنولوجيا إلى أدق تفاصيل حياتنا، حتى صار أفراد الأسرة الواحدة يجلسون معًا وأرواحهم غائبة، كلٌّ في عالمه الصغير، يحدّق في شاشة صامتة. أما اللقاءات العائلية، التي كانت يومًا عامرة بالضحك والحديث والذكريات، فقد صارت تُختصر في مجموعاتٍ رقمية تتبادل التحايا والتهاني الجاهزة والعبارات المكررة. نعم، تلتقي الأسماء على الشاشة، لكن القلوب متباعدة، وصوت الضحكة الحقيقية صار ذكرى من زمنٍ مضى.

وهنا يأتي العتاب المرّ: كيف غدونا نعيش في البيت الواحد ولا نلتقي؟ كيف أصبحت الزيارة عبئًا، والجلوس مع الأهل ترفًا مؤجلًا؟ كم من أمٍّ تنتظر زيارة ابنها الذي يسكن في الولاية ذاتها او بعض الاحيان الحارة ذاتها، فلا يراها إلا عبر شاشة هاتفه! وكم من إخوة يعيشون في الولاية نفسها، تمرّ الشهور دون أن يجمعهم مجلس واحد! ما الذي حدث لنا؟ هل أصبحت الشاشات أغلى من وجوه أحبّتنا؟ وهل صار الحبّ يُقاس بسرعة الردّ لا بحرارة اللقاء؟ إنها قسوة العصر، لكننا نحن من سمحنا لها أن تتسلّل إلى بيوتنا وقلوبنا، حين استبدلنا العناق بالرموز، والحديث الحيّ بالرسائل المقتضبة، والدفء الحقيقي بحرارة الأجهزة.

ولا يقتصر الأمر على الأسرة؛ فالأصدقاء الذين كانوا يملؤون أيامنا دفئًا وحكايات، أصبحوا يكتفون اليوم برسائل مقتضبة ومنشورات سريعة. نحسب أننا متواصلون، بينما نحن نغرق في عزلةٍ صامتة خلف شاشاتٍ مضيئة لا تضيء أرواحنا. الوحدة لم تعد فراغًا في المكان، بل فراغًا في القلب، حين يغيب التواصل الصادق رغم كثرة الوسائل.

ومع ذلك، لا يمكن أن ننكر أن هذه الوسائل قد قرّبت المسافات وقرّبت الغائبين. من كان يسافر شهورًا دون خبر، صار اليوم يرى وجوه أحبته ويسمع أصواتهم بثوانٍ. التكنولوجيا منحتنا القدرة على الوصل، لكنها لم تمنحنا الدفء، فهي وسيلة، لا غاية. تبقى قيمتها مرهونةً بكيفية استخدامها؛ فحين نستخدمها بوعي، تصبح جسرًا للتقارب، لا جدارًا للعزلة.

وفي المناسبات الدينية والأعياد، نرى المفارقة بوضوحٍ أكبر. كانت الأعياد زمنًا للزيارات والمصافحات والضحكات، أما اليوم فصارت التهاني تُرسل بنقرة واحدة، وكأن العيد فقد شيئًا من روحه. نقرأ العبارات، لكننا لا نسمع الصوت، ولا نرى الملامح، ولا نشعر بذلك الفرح الذي يولده اللقاء الحقيقي. أصبحت البركة الإلكترونية باردة، والمشاعر مؤجلة إلى إشعارٍ آخر.

أيها الإخوة، إن قلوبنا ليست رقمًا ولا إشعارًا، إنه كائن نابض يحتاج إلى الحضور، إلى من ينظر إليه ويستمع له، لا من يرسل له رموزًا جامدة. التكنولوجيا لن تزرع المحبة مكان اللقاء، ولن تبني الثقة مكان العِشرة، ولن تصنع دفء العائلة عبر الأزرار. ومع ذلك، تبقى بأيدينا القدرة على الموازنة بين العالمين: أن نأخذ من الرقمي ما يقربنا، لا ما يبعدنا.

فلنجعل من هذا العصر الرقمي الافتراضي وسيلة لإحياء المشاعر، لا لطمسها، ولنُعد إلى القلوب دورها الطبيعي في العلاقات الإنسانية. فالكلمة حين تُقال وجهًا لوجه، تُولد من القلب إلى القلب، أما حين تُكتب على شاشة، فإنها تفقد بعضًا من دفئها وإن صدقت. فلنزرع بيننا لقاءً صادقًا، وضحكةً حقيقية، ولمسةَ محبة، تعيدنا إلى معنى الإنسانية الذي كدنا نفقده.

ختامًا.. القلوب الرقمية قد تلمع على الشاشات، لكنها تظل بلا دفء، لا تُغني عن القلب الذي ينبض بالحب، ولا عن اللقاء الذي يزرع الحياة في أرواحنا.. فلنجعل حضورنا الإنساني أثمن من كل إشعار، ولنتذكر أن الحياة لا تُقاس بعدد الرسائل؛ بل بعدد القلوب التي نبقيها قريبة، مهما ابتعدت المسافات.

الأكثر قراءة