عبدالنبي الشعلة
بعد أيام قليلة من فوران "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، كتبتُ مقالًا قلتُ فيه إن هذا الحدث، رغم مبرراته ومشروعية الغضب الذي حمله، ستكون له تداعيات سلبية وكارثية على المنطقة بأسرها. حينها اختلف معي كثيرون من القرّاء والأصدقاء، رأوا فيه حدثًا إيجابيًا سيكسر الجمود عن القضية الفلسطينية، ويزعزع أركان الدولة الإسرائيلية تمهيدًا لانهيارها.
والآن، وبعد مرور عامين على ذلك اليوم الذي غيّر وجه المنطقة، أترك الحكم للقرّاء ليقرروا إن كنتُ قد أخطأت في تقديري أم أصبت، ونحن نرى تطورات المشهد الراهن في ضوء خطة الرئيس دونالد ترامب لوقف الحرب وإحلال السلام في غزة.
خطة ترامب للسلام تتكون من عشرين بندًا، وتشكل في مجملها اتفاقًا شاملًا بين إسرائيل وحركة حماس برعاية أمريكية ودولية.
وقد نصّت على أن تقوم حماس فورًا بتسليم جميع المحتجزين الإسرائيليين أحياءً وأمواتًا، ووقف القتال، وتسليم ما تبقى من أسلحة، وتدمير بنيتها التحتية العسكرية بما في ذلك الأنفاق ومنشآت التصنيع، وعدم المشاركة في أي إدارة مستقبلية لقطاع غزة.
وفي المقابل، وافقت إسرائيل على وقف حرب الإبادة، والإفراج عن نحو ألفي أسير فلسطيني، والبدء في انسحاب تدريجي لقواتها من القطاع، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية، وإعادة تأهيل البنية التحتية من كهرباء ومياه وصرف صحي ومستشفيات ومخابز، وفتح الطرق وإزالة الأنقاض تمهيدًا لإعادة الإعمار.
كما تضمنت الخطة بنودًا تتعلق بإطلاق حوار بين الأديان على أساس التسامح والتعايش، والشروع في مسار سياسي فلسطيني- إسرائيلي يهدف إلى تمكين الفلسطينيين من تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم.
يعتقد البعض أن هذه النتائج ما كانت لتتحقق لولا "طوفان الأقصى"، لكنه يبقى سؤالًا مؤلمًا: هل الثمن الذي دفعه الفلسطينيون كان بخسًا أم باهظًا؟ فقد استشهد أكثر من 67 ألف فلسطيني، بينهم 18 ألف طفل، و361 ماتوا جراء المجاعة أو سوء التغذية، وأُصيب نحو 169 ألفًا بجروح متفاوتة، بينما تعرّض تسعون بالمائة من سكان غزة للنزوح القسري.
أما الدمار المادي فكان شبه كامل: تدمير 436 ألف وحدة سكنية منها 193 ألف مبنى، وانهيار 78% من البنية العمرانية، وتوقف معظم المرافق الحيوية عن العمل، بما فيها المستشفيات والمدارس ومحطات الكهرباء ودور العبادة، وخروج 85% من شبكات المياه والصرف الصحي من الخدمة.
ويقدّر البنك الدولي أن تكلفة إعادة إعمار غزة خلال عشر سنوات ستتجاوز 53 مليار دولار.
وقد امتدت نيران الصراع إلى خارج غزة، لتصيب المنطقة بأكملها بحالة من الاضطراب؛ ففي الضفة الغربية تصاعدت الاعتقالات والعمليات العسكرية وسقط أكثر من 1000 فلسطيني خلال العامين الماضيين.
وفي لبنان تحولت المواجهات بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب مدمرة طالت الجنوب اللبناني وخلّفت آلاف القتلى والجرحى، ودمّرت المدن الحدودية وقدرات الحزب العسكرية.
أما في سوريا، فقد انهار نظام بشار الأسد، وتوالت الضربات الإسرائيلية التي دمرت المرافق والقواعد العسكرية والبنية التحتية للقوة الجوية.
وفي العراق، تزايدت هجمات الميليشيات وردود الفعل الأمريكية، فعاد ملف الوجود الأجنبي إلى الواجهة وتراجعت الثقة بالاستقرار والأمن.
وفي اليمن، أدى تصاعد الهجمات الحوثية على الملاحة في البحر الأحمر إلى ضربات إسرائيلية جوية مدمرة، تسببت بخسائر بشرية ومادية جسيمة. إن هجمات الحوثيين ألحقت أضرارًا كبيرة بالتجارة العالمية وإيرادات قناة السويس المصرية التي خسرت وحدها نحو 7 مليارات دولار عام 2024.
وفي إيران، اندلعت مُواجهة مباشرة مع إسرائيل استمرت 12 يومًا من القصف المتبادل، شاركت فيها الولايات المتحدة، وأسفرت عن شل القدرات النووية الإيرانية ومقتل عدد من كبار العلماء والقيادات.
إنَّ خطة الرئيس ترامب، مهما وُصفت بأنها غير عادلة أو مجحفة، تبقى الخيار الواقعي الوحيد المتاح حاليًا لإنهاء المأساة، وإزاحة شبح الإبادة والتهجير عن الفلسطينيين.
ولذلك، فإنَّ من الحكمة أن يقبلها الفلسطينيون والعرب ويتعاملوا معها بإيجابية، وأن يوحّدوا صفوفهم وكلمتهم ليحولوا بنودها إلى فرصة لبناء السلام لا ورقة استسلام. كما ينبغي استثمار التعاطف العالمي الذي تجدد خلال الحرب، وتحويله إلى رافعة سياسية ودبلوماسية تدعم الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية.
وإلى جانب ذلك، يمكن للفلسطينيين والعرب الرهان على الداخل الإسرائيلي واستثمار وجود أكثر من مليوني فلسطيني داخل إسرائيل يحملون جنسيتها، أي ما يزيد على 25% من سكانها، ليكونوا جسرًا للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي، وللتواصل مع النخب الفكرية والإنسانية التي ترفض العنف وتبحث عن السلام في إسرائيل.
المجتمع الإسرائيلي ليس كتلة واحدة، وهناك أصوات يهودية مؤثرة بدأت تراجع نفسها بعد عامين من الدمار، وبدأت ترى أنَّ حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة لم تجلب سوى الانقسام والفشل والعار.
لقد أصبح نتنياهو عبئًا على إسرائيل، تمامًا كما كان حال جولدا مائير بعد حرب أكتوبر 1973، ومناحيم بيجن بعد حرب لبنان 1982، وإيهود أولمرت بعد حرب 2006.
إن سقوطه بات مسألة وقت، بسبب فساده وتهمِهِ الجنائية، وفشل استخباراته، واهتمامه المفرط بالصراعات الداخلية وإصلاح القضاء على حساب أمن إسرائيل ذاته.
صحيحٌ أن خطة ترامب لا تخلو من الثغرات ولا تضمن العدالة الكاملة، لكنها تفتح نافذة نحو سلامٍ ممكنٍ لا مثاليّ.
إن رفضها من حيث المبدأ لا يوقف المأساة، بل يطيلها. وإن قبولها ليس تنازلًا، بل بداية طريق جديدة تُبنى فيها مؤسسات الدولة الفلسطينية على أسس سلمية، مدعومة بوحدة وطنية ورؤية استراتيجية.
فالزمن لا يرحم المترقبين، والفرص التي تأتي بعد النكبات الكبرى هي عادةً الفرص الحقيقية للتصحيح والتغيير.
لقد كتبت قبل عامين أن طوفان الأقصى سيُدخل المنطقة في نفق مظلم من الفوضى والدمار، ولم يكن ذلك تشاؤمًا؛ بل قراءة لحقائق التاريخ.
واليوم، مع خطة ترامب للسلام، نقف أمام مفترقٍ جديد: إما أن نغرق مجددًا في دوامة العنف، أو نتمسك بخيط الأمل مهما كان رفيعًا، لنعيد للقضية الفلسطينية بريقها الإنساني والشرعي، بعيدًا عن لغة الدم والسلاح.
فالتاريخ لا ينتصر لأصحاب القوة؛ بل لأولئك الذين يُحسنون قراءة اللحظة، ويصنعون من الألم طريقًا إلى السلام.