عبدالنبي الشعلة **
أكثرُ من عامٍ مضى على انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، بعد مُقاومة عنيفة ومواجهات دموية مع ثورة شعبية امتدت لأكثر من 14 عامًا، ثورة بدأت سلمية، حاملةً مطالب الحرية والكرامة والإصلاح، لكنها ما لبثت أن وُجِهَت بالقوة المفرطة، فانزلقت تدريجيًا إلى العسكرة، وتقاطعت فوق أرضها أجندات مُتعددة، وتدفقت إليها تيارات ومقاتلون من الخارج، قبل أن تنتهي- على نحوٍ خاطف- بسقوط النظام الذي بدا يومًا عصيًا على الانكسار.
لسنا هنا بصدد جرد حسابٍ للأرباح والخسائر؛ فذلك يتطلب مجلدات لا مقالًا، وإنما نسعى إلى التوقف عند بعض الدروس والعِبر التي يمكن استخلاصها من صراعٍ طويل دفع السوريون ثمنه فادحًا: مئات الآلاف من القتلى، ملايين المهجّرين والنازحين، تمزق النسيج الوطني، وتدمير مروّع للاقتصاد وللبنية التحتية ولمقومات الدولة والمجتمع.
من حيث المبدأ، لم يكن سقوط النظام مستبعدًا؛ فالتاريخ يؤكد أن الأنظمة التي تحكم بالقوة وحدها، وتغلق منافذ الإصلاح، تُؤجل سقوطها لكنها لا تمنعه. غير أن المفاجأة كانت في التوقيت والسرعة والظرف الدولي والإقليمي الذي وقع فيه الانهيار. وفي عالم السياسة، لا مكان للثوابت؛ فالمُفاجأة أحد عناصرها الجوهرية، وربما كان التغيير هو الحقيقة الوحيدة المستقرة في هذا الحقل المتقلب.
إنَّ من أبرز خلاصات المشهد السوري أن أحد تيارات الإسلام السياسي السُنِّي تمكَّن، عبر القوة المسلحة، من الوصول إلى الحكم، بعد أن أعاد صياغة خطابه، وخفّف من حدة شعاراته، وبدّل من مظهره السياسي، مستفيدًا من إخفاقات تجارب إسلامية أخرى، ومن النموذج التركي الذي قدّم- في مرحلة سابقة- مثالًا على التكيّف مع شروط الدولة الحديثة. والخطورة هنا لا تكمن في التجربة السورية بذاتها فحسب؛ بل في احتمال تحوّلها إلى نموذج يُغري تيارات إسلامية أخرى بالسير في الطريق ذاته، معتبرة أنَّ العنف قد يكون بوابة مشروعة إلى السلطة.
كما يثبت المشهد السوري أن التحولات السياسية لا تعرف خطوطًا مستقيمة: الضعفاء قد يصيرون أقوياء، والمهزومون قد يتحولون إلى منتصرين، والأفراد- كما التيارات- يغيّرون مواقفهم وخطاباتهم وفق مقتضيات اللحظة. الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، الذي كان يومًا مصنّفًا في لوائح الإرهاب، أصبح اليوم رجل دولة يُستقبل في عواصم القرار؛ بما فيها عواصم كانت قد رصدت مكافآت مالية ضخمة لمن يُدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه.
وليس ذلك استثناءً في التاريخ السياسي الحديث؛ فكم من شخصية وُصمت بالإرهاب ثم تحولت إلى شريكٍ معترف به دوليًا. ياسر عرفات مثال بارز، وكذلك مناحيم بيغن؛ بل وحتى قامات أخلاقية كبرى مثل المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا، الذين واجهوا في مراحل من حياتهم الاتهام والتجريم قبل أن يتحولوا إلى رموز عالمية.
ومن الدروس القاسية التي كشفتها التجربة السورية أن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى يشبه اللعب بالنار؛ قد يحقق مكاسب آنية، لكنه ينتهي غالبًا بحرق أصابعه. حزب الله، والنظام الإيراني، وبعض الأنظمة العربية، وغيرهم من القوى الإقليمية والدولية، دخلوا الساحة السورية كلٌّ بأجندته، فكانت النتيجة خسائر استراتيجية وأثمانًا باهظة لم يكن معظمها في الحسبان.
كما أثبتت الأحداث صحة تحذيرات المفكرين من خطورة العبث بالتعددية الفئوية والعرقية والمذهبية والدينية بهدف تثبيت الحكم. سياسة "فرّق تسُد" قد تُطيل عمر السلطة، لكنها تُعجّل بانهيار الدولة. ونظام الأسدين، الأب والابن، منذ البداية، اعتمد هذه المقاربة بدرجات متفاوتة، متجاهلًا دروس التاريخ، بما فيها سقوط الإمبراطورية البريطانية نفسها، رغم براعة منظّريها في هذا النهج.
إلى ذلك، أخفق النظام السوري لعقود في إدارة علاقاته العربية والإقليمية، متنكرًا لمحيطه الطبيعي، ومستندًا إلى وهم "الأهمية الاستراتيجية" لسوريا بوصفها ضمانة دائمة للحماية؛ فانتهى محاصرًا بعداوات متعددة، من انقسام البعث بين دمشق وبغداد، إلى الاصطفاف مع إيران في حربها مع العراق، وصولًا إلى علاقات متوترة مع معظم الدول العربية، لم تُصلحها مواقف ظرفية عابرة.
إنَّ انهيار نظام الأسد ليس مجرد حدث سوري داخلي؛ بل محطة مفصلية في تاريخ المنطقة، تكشف حدود القوة، وفشل الحكم القائم على الإقصاء، وخطورة تسييس الهُوِيَّات، وكلفة تحويل الأوطان إلى ساحات صراع مفتوحة. الدرس الأهم أن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى بالدبابات، ولا تُصان الدول بتأجيل الانفجار؛ بل بإصلاحٍ مُبكر، وعدالة سياسية، وشراكة وطنية جامعة. وما لم تُستوعَب هذه الدروس، فإنَّ المآسي قد تتكرر بأسماء مختلفة، لكن بالأوجاع ذاتها.
** كاتب بحريني
