الرقابة الذكية قادمة.. هل نحن مستعدون؟

 

 

                  

خالد بن حمد الرواحي

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات، لم تعد الرقابة المالية والإدارية ترفًا بيروقراطيًا ولا تقريرًا دوريًا محفوظًا في الأدراج، بل تحولت إلى منظومة ذكية تستند إلى الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والحوسبة السحابية، وصولًا إلى أنظمة التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها. هذا التحول لا يعني فقط تحديث الأدوات، بل إعادة تعريف وظيفة التدقيق بالكامل.

الرقابة الرقمية اليوم تتجاوز مجرد مطابقة الأرقام أو مراجعة المعاملات، لتصبح قادرة على اكتشاف التجاوزات في لحظتها، وتحليل الأنماط، وربط الأحداث المتفرقة التي قد تبدو عشوائية على السطح، لكنها تُخفي خللًا أو سوء استخدام للمال العام. لم يعد التدقيق ينتظر نهاية العام، بل بات حارسًا فوريًا على مدار الساعة، يتعامل مع البيانات لحظيًا، ويستخرج منها مؤشرات ومخاطر، ويدعم صانع القرار بقرارات مبنية على تحليل علمي دقيق.

لكن، وسط هذا السباق الرقمي، يبرز سؤال جوهري: هل نحن مستعدون؟ هل تمتلك وحدات التدقيق الداخلي في مؤسساتنا الحكومية البنية الرقمية، والكفاءات البشرية، والثقافة المؤسسية التي تؤهلها للتحول الرقابي الذكي؟ الواقع يشير إلى فجوة واضحة بين الإمكانات التقنية المتوفرة والجاهزية المؤسسية لتوظيفها بفعالية. فبعض المؤسسات ما زالت تعتمد على الإجراءات الورقية، أو على نظم مُؤتمتة جزئيًا تفتقر إلى التكامل والتحليل الذكي.

التحول الرقابي لا يتحقق فقط عبر شراء البرامج أو تدريب الكوادر، بل يتطلب تغييرًا جذريًا في المفاهيم، وإرادة إدارية تُؤمن بأنَّ الرقابة الفعَّالة لا تُهدد أحدًا، بل تحمي الجميع. إن بيئة التدقيق في العصر الرقمي تحتاج إلى ثقافة مؤسسية ترى في البيانات فرصة، لا عبئًا؛ وتعتبر الذكاء الاصطناعي شريكًا، لا خصمًا.

تجارب دولية مثل كوريا الجنوبية وإستونيا أثبتت أن بناء أنظمة رقابة ذكية يُسهم في تعزيز الشفافية، وتقليل الهدر، ورفع كفاءة الإنفاق العام، لكنها بدأت برؤية واضحة، وتخطيط تدريجي، ودعم سياسي وتشريعي شامل. أما ترك التحول الرقابي للصدفة أو الاجتهادات الفردية، فلن يُنتج إلا مبادرات مُجزأة، محدودة الأثر.

في سلطنة عُمان، تشكّل رؤية 2040 إطارًا طموحًا يمكن أن يُسرّع هذا التحول، خاصة مع إطلاق برنامج التحول الرقمي الحكومي، وتزايد الوعي الرسمي بأهمية التوظيف الذكي للتقنيات في القطاع العام. إلا أن نجاح هذا التحول الرقابي الرقمي يتطلب ربط وحدات التدقيق الداخلي بالأنظمة الحكومية المركزية، وتفعيل دورها كمصدر مبكر للمعلومات، وليس كمجرد جهة تفتيش لاحقة.

التدقيق الرقابي الذكي لا يعني إلغاء دور الإنسان، بل تطويره. فالخوارزميات يمكن أن ترصد التكرار، لكن عين المدقق هي من تُفسّر السياق وتُميّز بين الخطأ والإهمال، أو بين المخالفة الإدارية وسوء النية. لهذا، لا بد أن يسير التحول الرقابي على مسارين متكاملين: رقمنة الأدوات، وتنمية المهارات.

ربما لم نصل بعد إلى مرحلة "الرقابة التنبؤية" الكاملة، لكن كل يوم نتأخر فيه عن هذا التحول نمنح فرصة لهدر جديد، أو خلل غير مرصود. الرقابة الذكية لم تعد ترفًا إداريًا، بل ضرورة لحماية المال العام، واستعادة الثقة في كفاءة القطاع الحكومي، ورفع جودة القرار الإداري.

الرقابة تلبس ثوبًا رقميًا... والسؤال لم يعد إن كانت ستأتي، بل: هل سنكون مستعدين حين تصل؟

الأكثر قراءة