«بلير».. عودة الجثة السياسية لتجلس على صدر غزة

 

 

 

د. مجدي العفيفي

 

(1)

أي استهزاء بهذا التاريخ؟ أي وقاحة هذه؟ أن يعود توني بلير- الرجل الذي طبع يديه بدماء الملايين في العراق وفلسطين وغيرها - كي يُعرض كخيار «حاكم» لغزة في خطة ترامب القذرة، ليس مجرد سلبية سياسية؛ إنه تشويه لذوق التاريخ، وإهانة لكل دمٍ سُفك، ولذكريات كل ضحايا العدوان.

هذه ليست مجرد «مهزلة انتخابية» أو «لعبة دبلوماسية»؛ إنها محاولة فاحشة لطمس الجرائم القديمة بإعادة تدوير قاتل مدان سياسيًا- قاتل لأن سياساته أدت إلى موت ودمار وتهجير- في قناع شرعي جديد.

كأنهم يريدون أن يقولوا: سنضع من دمّر شعوبًا ليراقب شعبًا آخر؛ سنعطي السلطة لمن دمرها.

(2)

 اللحظة السياسية الحالية، من إعادة انتخاب أو تصعيد يميني في واشنطن إلى تحالفات مظلمة في تل أبيب ولندن، توفر فرصة لمن يريدون تسويق أفكار ليست فقط مسمومة؛ بل قاتلة.

خطةٌ كُتبت على مكتبِ غرورٍ إمبريالي تقول: «نحن نعيد ترتيب السيطرة بإدارة مباشرة أو عبر وكلاء ظاهريين» - وبلير هو الوجهُ المستأجر لهذا التصميم.

هذه الخطة تخدم أهدافًا عدة: تشريع احتلال جديد، تبييض جرائم سابقة، وخلق حكومة عميلة تستطيع أن تفرض «حلولًا» تُجرد الشعب الفلسطيني من إرادته. هي ليست خطة سلام؛ هي خطة اضمحلال شعب.

(3)

لنعد إلى الحقائق: توني بلير ليس اسمًا عابرًا في السياسة الغربية. هو رمز لمرحلة شهدت غزوًا مبنيًا على أكاذيب، وخرابًا أنتُج سياساتٍ اتخذت بناءً على خدع إعلامية، وتحالفات سرية، وقرارات دمّرت دولًا وشعوبًا.

من الحرب على العراق إلى سياسات الشرق الأوسط المتعجرفة، يظل اسمه مرادفًا لواحد من أكبر فشلَي أخلاقي وسياسي في الذاكرة المعاصرة.

نعم، أسميه قاتلًا بصيغة الادعاء السياسي: لأنَّ آجال القرار السياسي التي أفضت إلى غزو بلدٍ وقتل المدنيين، وإلى انهيار مؤسساتٍ وظهور فراغ أمني أودى بحياة آلاف المدنيين، هي قرارات تحمل مسؤولية سياسية وأخلاقية أولى.

ومن يختزل هذا التاريخ ويأخذه كـ«حامل شهادة» لحكم غزة، فهو إهانة للعقل والضمير.

(3)

إخراج بلير الآن من «قبره السياسي» وإلباسه ثوب الحكم على غزة يشبه أن تعتمدوا على مقاول بنى الحواجز ليصون لكم بيتكم بعد أن أحرقه بعطشه إلى النفط. إنها دلالة على عجزٍ أخلاقي وسياسي: لم يعد لديهم مشروع شرعي، فصاروا يعيدون تدوير وجوه الفشل والعار.

هذا التدوير ليس صدفة؛ إنه رسالة: لا نريد حلًا للعدالة، بلُ نريد إحياءً لمسارات السيطرة.

 بلير هنا ليس مجرد شخص؛ بل علامة على استمرار مشروعٍ استعماري بدأ بقرارات مثل بلفور، واستمر بأفعالٍ مدمرة عبر عقود.

(4)

من الذي وضع هذه الخطة؟ أناس تزوّجوا من مصالحٍ ضيقة، واعتقدوا أن التاريخ مجرد صفحة يُعاد طبعها. هذا ليس مجرد غباء سياسي؛ هذا جنون استعماري: يظنون أن القوة الوحشية يمكن أن تُحلّ مشكلة سياسية بشرية. يصرّون على وصف المقاومة والشموخ الفلسطيني بـ«مشاكل» يجب «إدارتها» عبر أدوات السيطرة.

هذه عقلية الكولونيالي المتقدم: تخرج من غرفة عمليات وتقول «ليه؟» بلا تبرير أخلاقي. وتلك غرفة عملياتٍ ترفض الاستماع لصوت الضحايا، وترى في الأرض مجرد خرائط قابلة للتبديل.

(5)

غزة ليست «ممتلكات» أو «بضاعة تداول». غزة شعب، وذاكرة، ومقاومة.

أهل غزة ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية ينتظرون قرارًا أجنبيًا ليُعيد تدوير حياتهم. أي محاولة لفرض حاكم من الخارج، وبالأخص حاكمٍ يمثل نفس عقلية الاحتلال، ستقابل بعاصفة رفض ومقاومة لا تعرف التفاوض على الكرامة.

من يظن أن بلير أو أي وجه مماثل يمكن أن «ينقذ» غزة أو «يديرها بكفاءة» هو مخطئ تاريخيًا وأخلاقيًا. الإدارة الحقيقية لا تأتي عبر فرضيات أمنية؛ تأتي عبر اشتراطات عدالة وإعادة بناء ثقة وشراكات محلية حقيقية.

(6)

الاحتلال لم يولد اليوم، ولا من فراغ. من وعد بلفور إلى سياسات ما بعد الحرب العالمية، ثم إلى تدخلات القرن الحادي والعشرين، ثمة خيط طويل من القرارات التي صنعت أزمة متعددة الأبعاد.

بلير هو مجرد حلقة في سلسلة: حلقات تبدأ بوعد غاشم وتستمر بأفعالٍ تنكّل بحقوق الشعوب. لكن التاريخ أيضًا يعلمنا شيئًا آخر: هذه السلاسل قابلة للقطع. كل نصّ ظالم يمكن مواجهته بصوتٍ أقوى، وكل وعد خان يمكن كشف مُزيِّفُوه. وها هي غزة، بجرحها وصمودها، تقف شاهدة على فشل كل محاولات الطمس.

(7)

ماذا يعني هذا للمقاومة والرد الفلسطيني والعربي؟

أولًا: لا ترضخوا للشرعية المزيفة. أي حاكم يأتي بغطاء أجنبي ويدّعي «حلولًا أمنية» يجب أن يُسأل: من أعطاك الحق؟ من مَرَّر هذا الاختيار؟ وماذا عن العدالة والعودة والكرامة؟

ثانيًا: الوحدة والتنسيق السياسي والعسكري والاجتماعي هو الرد الذكي. كل تمرّد سياسي مفكك يسهّل تمرير مخططات الهيمنة. الأفكار القومية، وحقوق العودة، والمساءلة الدولية، يجب أن تظل في مقدمة المشهد.

ثالثًا: المكاشفة الإعلامية والقضائية: إظهار التاريخ، توثيق الجرائم، ومواجهة محاولات تبييض المذنبين عبر محاور قانونية وإعلامية قوية. لا بد من حملة عالمية تُفضح نواياهم وتوضح أن هذه ليست خطة سلام، بل محاولة لاحتواء الحرية.

(8) 

دعهم يجربون كل خدعهم، وللفعل ما بعد الأفكار: كل محاولة لشرعنة حكم بلير على غزة ستقابل برفضٍ ليس شعارًا؛ بل واقعًا. غزة ليست مقعد محكمة بريطانية، ولا ممتلكًا لواحدٍ من أعوان الإمبراطورية.

أدعو كل من يهمه ألا يكتفي بالغضب الكلامي: أن يحول هذا الغضب إلى فعل سياسي موحد، ضغط إعلامي وقضائي ودبلوماسي، والعمل على بناء تحالفات تفضح هذه الخطة وتقطع الطريق أمامها.

توني بلير سيبقى اسمًا في سجلات العار، وإعادة تدويره حيلة فاشلة لن تخفي جروحه.

غزة ستصمد، وستحول كل محاولة احتلال إلى صفحة جديدة من المقاومة والتأكيد على الحق.

الأكثر قراءة