خالد بن سالم الغساني
مرة أخرى، يقدم للعالم مشهد استعماري سياسي مُزيّف، برعاية ترامب، يرتدي ثوب "السلام" بينما يضمر في داخله كل أدوات القهر والإذلال والتصفية، وهذه المرة عبر ما يُسمى "خطة ترامب للسلام" في غزة، خطة لا تحمل من السلام إلا اسمه، ولا تحمل من العدل سوى أوهام تُساق كأقنعةٍ لتبرير مشروع قديم جديد، هو مشروع الهيمنة الاستعمارية على شعبٍ أعزل يُريد الحياة والكرامة والسيادة.
إنَّ جوهر هذه الخطة ليس إنهاء الحرب ولا حماية المدنيين ولا ضمان حق الفلسطينيين، إنه بدون لف ولا دوران، تثبيت للاحتلال الإسرائيلي وتوسيع لنفوذه، وتجريد الفلسطينيين من كل عوامل القوة التي يملكونها، وتركهم تحت رحمة سلاح القمع والإخضاع.
وحين نقرأ بنود الخطة، نجد أنَّها تتجنب أي ذكر صريح أو واضح لحق الفلسطينيين في دولة مُستقلة ذات سيادة، وكأنَّ الاعتراف بوجود شعب يحق له تقرير مصيره أصبح أمرًا يمكن تجاهله أو تأجيله. وفي المقابل، نجد إصرارًا على نزع سلاح المقاومة، وتدمير أنفاقها، وتفكيك بنيتها العسكرية، وإخضاع غزة لسلطة مُؤقتة مرتهنة للقوى الدولية، يُتداول أن يقودها توني بلير أو غيره من ممثلي الغرب الاستعماري. أي أنَّ جوهر الفكرة يقوم على حرمان الفلسطينيين من أدوات الدفاع عن أنفسهم، وتركهم أسرى احتلال غاشم أثبتت تجارب العقود الماضية أنه لا يتوقف عن القتل والتهجير والاستيطان إلا ليُعيد إنتاج سياساته بأشكال جديدة.
إنَّ ما يُسمى "سلطة مؤقتة" لا يعني سوى ستار يخفي من خلفه نوايا الاحتلال في إعادة صياغة سيطرته المباشرة، لكن هذه المرة بأدوات أكثر قبولًا لدى الإعلام الغربي؛ فبدلًا من صورة الجنود المدججين بالسلاح على الحواجز، سيكون هناك موظفون وتقنيون دوليون يتحدثون لغة "الحوكمة الرشيدة" و"إعادة الإعمار"، بينما تُدار الأرض فعليًا وتخضع لإدارة سلطات الاحتلال. وما أشبه هذا المشهد بوجوه الاستعمار القديم حين كان يرسل الإداريين والموظفين المدنيين لتلميع صورته، بينما كان المستوطنون يوسعون نفوذهم على الأرض ويقمعون الشعوب الأصلية.
لا يمكن لأي عاقل أن يقبل بفكرة "السلام" حين تأتي على أنقاض العدالة؛ فالفلسطيني الذي طُرد من أرضه عام 1948، والذي يواجه يوميًا هدم بيته في الضفة الغربية، ويعيش محاصرًا منذ أكثر من 15عامًا في غزة، لا يمكن أن يُطلب منه أن يسلّم بما تبقى له من كرامة مقابل وعود كاذبة بالإعمار أو بمساعدات إنسانية مشروطة. إن حقوق الشعوب لا تُشترى بالقمح والطحين والدواء، ولا تُباع في مؤتمرات تُعقد في عواصم بعيدة تحت رعاية من كانوا ولا يزالون شركاء في استمرار المأساة.
"خطة ترامب" تكشف بوضوح أن الولايات المتحدة، ومعها القوى الغربية الداعمة لإسرائيل، لا تزال تنظر إلى القضية الفلسطينية بعين استعمارية محضة: أرض يجب ضبطها، وسكان يجب إخضاعهم أو تهجيرهم، ومقاومة يجب تصفيتها. فما ليس من الصدفة أن تعرض "خطة سلام" ناقصة من أبسط الحقوق لشعب ذاق من مرارات التهجير والتشريد والقتل، ما لا يُعد ولا يُحصى على مدى عقود طويلة، خطة لا تتضمن أي إشارة أو اعتراف بسيادة فلسطينية، بينما تُمنح إسرائيل في الوقت ذاته شرعية إضافية لاحتلالها. وليس غريبًا أن يُطرح خيار "المغادرة الآمنة" لأبناء غزة وكأنه نوع من الكرم السياسي، في حين أن التهجير القسري هو جريمة بموجب القانون الدولي. إنهم يريدون غزة منزوعـة الروح ومنزوعـة المقاومة، غزة محاصرة حتى في أحلامها.
الأدهى من ذلك أن ما يسمى "الخطة"، تُقدَّم إلى الرأي العام العالمي بلغة إنسانية مُخادِعة، فتتحدث عن إعادة الإعمار وفتح الطرق وبناء المستشفيات، لكن السؤال البديهي هنا: من دمَّر هذه الطرق والمستشفيات أصلًا؟ ومن قصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها؟ من قتل الأطفال تحت الأنقاض؟ أو ليست الطائرات والصواريخ الإسرائيلية بدعم غربي واضح وصريح؟! فكيف نصدق أنَّ اليد التي تضغط على زناد القتل يمكن أن تتحول فجأة إلى يد رحيمة حانية تبني وتُعمر؟ كيف نصدق أن من شارك في قتل أكثر من 60 ألف إنسان خلال حرب واحدة، يمكن أن يكون راعيًا للسلام والعدالة؟!
إن النوايا الاستعمارية لا يمكن إخفاؤها مهما تلوَّنت بالشعارات، فكل ما يأتي من قوى الاستعمار، قديمًا وحديثًا، لا يمكن أن يكون إلا استعماريًا، ومهما لبست الخطة من لبوس “المستقبل الأفضل” أو “المرحلة الانتقالية”، فإن حقيقتها هي المزيد من السيطرة على الإنسان الفلسطيني، والمزيد من تكريس الاحتلال وتوسيعه، والمزيد من إذلال الضحية أمام أعين العالم.
فلسطين ليست بحاجة إلى خطط تُملى من واشنطن أو لندن وتل أبيب، بل إلى اعتراف صريح بحقها في الحرية والاستقلال والسيادة، وإلى محاسبة عادلة لجرائم الحرب والعدوان التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني ومساعديه لعقود طويلة.
إن مسؤولية القوى الحرة في العالم، عربية كانت أو دولية، أن تفضح هذه المخططات وأن ترفضها علنًا؛ فالمعركة لم تعد فقط معركة أرض تُحتل؛ بل معركة وعي يُراد له أن يُستعمر من جديد تحت شعارات السلام الزائف. وإذا ما قُدِّر لهذه الخطة أن تمرّ، وهي لن تمر بإرادة الله سبحانه وتعالى، ومن ثم أحرار وشرفاء المقاومة الباسلة الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن أرضهم، ومن خلفهم الأحرار في العالم أجمع، فإنها لن تجلب سوى مزيد من الدماء والتهجير، وستُدخل المنطقة في دوامة أطول من الصراع، لأن أي سلام لا يستند إلى العدل سيولد بالضرورة جولات جديدة من المقاومة والانفجار.
إنَّ الشعب الفلسطيني لن يقبل أن يكون عبدًا في أرضه، ولن يقبل أن يعيش تحت رحمة من يقتله ويهجّره ثم يقدّم له فتات الخبز مشروطًا بالسكوت عن حقوقه. هذه الحقيقة يعرفها كل من حاول عبر التاريخ أن يخضع الفلسطيني ويكسر إرادته. وفي النهاية، لن يبقى من كل هذه الخطط إلّا وثائق أرشيفية يتندر بها المؤرخون، بينما تبقى فلسطين وقضيتها حيّة بدماء أبنائها وإصرارهم على البقاء.
ولهذا نقول بوضوح: لا سلام يُكتب بمداد الاحتلال والاستعمار؛ فالسلام الحقيقي لا يأتي إلّا من اعتراف صريح بحقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف، ومن إنهاء الاحتلال والاستيطان، ومن عودة اللاجئين والمشردين إلى أرضهم، أعزاء ورافعي الرؤوس والهامات، ومن بناء دولة فلسطينية كاملة السيادة. وما عدا ذلك ليس سوى استمرار للجريمة بأدواتٍ جديدة.