صبحى حسن
العنوان الاستهلالي أعلاه مقولة رائجة في الصحافة ومن يتعاطاها، الاستعمار عندما جاء إلى بلادنا واحتل أراضينا بشكل مباشر أو غير مباشر، احتكر أيضا الأخبار والوقائع وكتب لنا تاريخنا كما يريد وعمل له سرديات. لذا نحن عندما نريد أن نكتب عن تاريخنا لا محيص من الرجوع إلى وثائقهم ومدوناتهم وآثارهم لكي نستلهم منهم تاريخنا!
وفى عصرنا الحالي تغير الوضع بسبب ثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي وتطور وسائل الإعلام التي أصبحت ميسرة ومتاحة للجميع، ولم تعد حكرا على فئة، أو دولة أو منظومة أو أفراد أو جماعات؛ بل أصبحت الأخبار تنقل إلينا بسرعة البرق بعدما كانت تأتي إلينا بعد أيام. الفارق بين الماضي والحاضر أننا في الماضي كنَّا نسعى إلى التقاط الأخبار والحصول عليها بشق الأنفس، أما الآن فهي تأتينا بين أيدينا مطواعة وبسهولة دون أن نتحرك من أماكننا، بل وتلاحقنا أينما كنا وذهبنا.
الأخبار والأحداث يتم نقلها بواسطة أشخاص متخصصون فى هذا المجال ولديهم القدرة على تتبع الأخبار وملاحقتها ونقلها مباشرة ومن قلب الحدث. فالإعلام ليس إلا وسيلة لنقل تلك الأخبار، والعامل البشرى هو الأساس وليست الوسيلة؛ فهناك راصد الخبر وملتقطه، وهناك الوسيلة الإعلامية الناقلة له. الراصد لا يجلس في المكتب، بل هو دوماً في الساحة متنقلا من مكان إلى آخر يتتبع الخبر والحدث، ومعه أدواته التي يحتاج إليها، الوسيلة الإعلامية تتبعه أينما توجه وليس العكس.
عمل الصحفي يتمحور ما بين مراسل ومصور؛ فالمراسل ينقل الحدث والخبر من الموقع الفعلي لحظة بلحظة ما يراه أمامه. وهنا الزمان والمكان توأمان، يرافقه مصور محترف يسانده في ذلك، وما يتم إنجازه على أرض الواقع، يتم إرساله إلى المؤسسة الإعلامية التي يغطيها أو يمثلها، وغالبا ما يضيف على الخبر انطباعاته الشخصية، كما رآها وعاشها، وجدانيا وإنسانيا فهو في النهاية بشر مثلنا، وهذا الذي يعطي الخبر نكهة ومذاقا مختلفا ومؤثرا، شرط أن يكون صادقا فيما ينقله.
وهناك المصور الفوتوغرافي الذي يلتقط من هذا الكم الحدثي ما يراه مؤثرا. هذه هي مواد الصحافة ومادتها الخام الأساس، التي تتحول بعد أن يستهلكها الجمهور، إلى أرشيف يساعد لاحقًا في كتابة التاريخ ويُبنى عليه الكثير، ليتناقلها المؤرخون والمحللون، ويورّثوها للأجيال القادمة. إنها مهمة شاقة متعبة، ومرهقة للأعصاب والبدن.
ما يميز الإعلام كمهنة عن الأخرى، المصداقية والأخلاق والجرأة والأمانة، لأنها تعتمد على ما يقوله الشخص وينقله، فالعالم يتنظر ما يأتي منه، وهو واثق أنه لن يقول إلا الصدق، وما يمليه عليه ضميره، بغضّ النظر عن انتمائه ودينه وعرقه. إنها مسؤولية كبيرة وخطيرة في الوقت نفسه.
ونحن في خضم الحرب المسعورة التي فتحت أنيابها من قبل العدو الصهيوني، ومموليه وداعميه، هي في الحقيقة امتداد لهذا الاستعمار الذي كبلنا ولم يزل، كل ما هناك أنه بعد أن جاءنا من الباب وخرج، دخل علينا من الشباك، وعندما تم فضحه والأساليب التي يتبعها، لم يعد الاختباء والدخول من الشباك مجديا، فدخل علينا مرة أخرى من الباب وبشراسة! المقولة التجارية التي يتم تداولها، من الباب إلى الباب أصبحت الباب نفسه! لذا نجد الصحفيين والمراسلين في الخط الأمامي لكل حدث، قد نعرفهم أو نجهلهم، أو نعرفهم من خلال الجهة الإعلامية التي يمثلونها أكثر منه كشخص، طالما أنه يمثل جهة إعلامية معروفة ونثق بسردياتها وأخبارها، هنا تصنع الأخبار وتوثق الأحداث ويضع كل صحفي أو مراسل بصمته الخاصة.
في غزة، ما يحدث فيها قتلا وتجويعا واستهدافا للنشطاء، والصحفيين، وأصحاب المواقع الإلكترونية إنما هو في الواقع قتل للحدث والتاريخ معا، عمدًا ومع سبق الإصرار والترصد، لا لحجب الصوت فقط؛ بل لمحو التاريخ والحدث معًا، فالعدو يعلم علم اليقين أنَّ التاريخ سوف يلعنه وإلى الأبد ولن يرحمه، طالما أن هناك من يرصد أفعاله الشنيعة ويكتبها ويبثها، وهذا هو المغزى من إسكات صوت الصحفيين وإطفاء كاميراتهم.
هنا أنت تعمل في اتجاهين، كمقاتل وصحفي في آنٍ واحد، أنت هنا في قلب المعركة بلا سلاح، سلاحك الوحيد الصدرية التي تلبسها مكتوب عليها "صحافة Press" والميكرفون الذي تُوثِّق فيه وتبثه وما تراه وتسمعه وسط غبار الحرب وطلقاتها النارية، لا تدرى من أين سوف تأتيك، في الوقت الذي يفترض أن تكون متفرغا للجري وراء ما يحدث لا تمسك يد آثمة من القتل أو القنص أو الأذى، أنت كالسفير في سفارة، لك حصانة دبلوماسية عالمية، ويا لها من حصانة! رغم ذلك، تقوم بعملك من نقل وتوثيق ومقابلات والتحدث مع شهود العيان والمعنيين بالحدث، ما يجب أن يقال حقا للعالم وأمثالنا من الجمهور، من وسط هذا الضجيج والغبار والتعب والتجويع.
نحن بعيدون عن الحدث جغرافيا، هو يحاول أن يقرب لنا الحدث وينقله ونحن بأحسن حالاتنا دون أن يمسنا شيء، ننتظره ليأتينا بالأخبار، نستقبل تقاريرهم وأخبارهم، لدينا طريقتان لمعرفة الأخبار، إما منهم مباشرة، أو أن يسد العالم فراغهم، ويا له من عالم إن سد فراغهم!
الصحفيون الذين قتلوا فى غزة يفوق عددهم عدد من قتلوا في الحرب الأهلية الأمريكية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحروب اليوغسلافية، وحرب الولايات المتحدة في أفغانستان مجتمعةً، وفق دراسة أجراها مشروع " تكاليف الحرب" في جامعة بروان الأمريكية. نحن نتكلم عن أكثر من 7 حروب مجتمعة لم يُقتل فيها من الصحفيين كالذين تم قتلهم في غزة. أين الصحفيون الغربيون والشرقيون الذين يتباهون بصحفهم ومجلاتهم ووسائلهم الإعلامية المختلفة مما يحدث لزملائهم في المهنة التي يتقاسمونها، ثم يعربدون بأنهم محترفون وأخبارهم يثق بها العالم؟
في مقال لمحمد يازي نُشر في صحيفة الجارديان البريطانية تحت عنوان "لماذا تقاعس الصحفيون الغربيون عن مناصرة زملائهم في غزة"، يقول إن وسائل الإعلام الغربية لا تتوانى عن نصرة زملائهم الصحفيين إذا ما تعرضوا إلى الأذى من قبل خصومهم، أما غزة وحيث إن إسرائيل هي المعنية، فإنهم يلتزمون الصمت!
قبل أكثر من سبعين عاما عند تأسيس الكيان الغاصب على أرض فلسطين، كان من المستحيل إن لم لكن مبالغا، أن تقنع أجنبيا بأن إسرائيل كيان محتل لأرض فلسطين. بعد طوفان الأقصى لا تجد أجنبيا إلا ويلعن هذا الكيان ويخرج ضده فى تظاهرة أو مساندة بل قد يضحي بنفسه أو عمله ووقته وجهده في سبيل دحض المقولة! ماذا حصل ولم هذا الانقلاب؟ كم من جدار إعلامي بنى عليه هذا الكيان نفسه وحافظ عليه طوال عقود وفق سرديته التي أسسها وبثها وساندها الغرب، تنهار بفعل الطوفان في أقل من سنتين!
السرديات التي تبنى من خلال الأشخاص أو الدول أو المنظمات أو الإعلام في مصانع الكذب والنفاق لا أساس لها، تنهار لأنها لا تستند إلا على بنية إعلامية هشة سرعان ما تنهار إذا ما تم فضحها وإخراجها إلى العلن "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُو زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" (الأنبياء 18).
أن يشترط العدو الصهيوني على جميع الصحفيين الأجانب الذين يأتون من خارج غزة ويرغبون بتغطية الحرب، مرافقة عسكرية إسرائيلية معهم، لا للحماية فقط، وإنما وهو الأهم، أن يسمحوا للجيش بمراجعة لقطاتهم قبل بثها، هي الديمقراطية التي يتشدق بها الغرب والعدو الصهيوني.
الصحفيون والمراسلون الفلسطينيون غالبا ما يمثلون وسائل الإعلام التي يعملون تحت مظلتها وربما يعمل مع أكثر من جهة صحافية. وبسبب خبرتهم وشبكة علاقاتهم الواسعة من المصادر التي يتحققون من خلالها ما يحدث، أنهم في الواقع يضعون " المسودة الأولى للتاريخ ". فالخبر اللحظي أو العاجل كما يقال، يتحول لاحقًا إلى سرد تاريخي بامتياز.
استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي أن تخترق جدار الصمت الحديدي للإعلام والسريدات الصهيونية والغربية على حد سواء، لدرجة أن مقاطع الفيديو المتعقلة بالحرب وتحديدا وسم #Palestine حصد حوالي 27.8 مليار مشاهدة.
من سيكتب التاريخ؟
الإعلام صنو الحدث وشريكه الأوحد. من الذي يستطيع أن يتواجد فى قلب الحدث على هذا المستوى من البشاعة والإجرام والانتقام والحقد مجتمعين، ليتحدث أو يقول أو يكتب أو يوثق ما شاهده وحضره شخصيا رغم الجراح والآلام، لينقل لنا ما يحدث؟
نحن المستهلكين قد نمر على ما يبثه الإعلام بمختلف وسائله، وكأنه خبر كآلاف الأخبار، نقرأه ومن ثم نمسحه ويذهب إلى غير رجعة، ولكننا لا نثمن ما يبذل من مجهود ومخاطر والتعرض للقتل والإبادة فى سبيل توعيتنا والعالم بما يحصل من مآسٍ ومجازر. نحن الذين استهلكنا الكثير في متابعة الأخبار والمقاطع ربما بالمئات أو الآلاف، خلال عامين من طوفان الأقصى، نعتبر شهودًا على ما يحدث من خلال تلك المتابعات، وهي حجة علينا.
إن الصحفيين والشهداء والأطفال والنساء والرجال والجرحى والمرضى والمدفونين تحت الأنقاض والركام والجوعى والصامدين والمقاومين والداعمين لهم، هؤلاء جميعا، إنما يكتبون التاريخ ويسطرونه ويضعون اللبنة الأولى للأحداث والمشاهد، فليس هناك مكان للمتقاعسين والصامتين والمنتكسين فى هذا العالم فإما أن تكون أو لا تكون.
تعودنا أن نسمع عن مقولة الجندي المجهول، وفى بعض البلدان يقام له صرح في وسط البلد أو المدينة، لدينا هنا جنود معلومون غير مجهولون بأسمائهم وصفاتهم وعوائلهم، التي في بعض الحالات أبديت معهم أيضا. لدينا صورهم، ولقطات من حياتهم، وتغطياتهم الإعلامية، لدينا مواقفهم وكلماتهم، لا نريد أن تقام لهم نصب تذكارية أو تماثيل لا فائدة منها سوى كومة أحجار منصوبة.
فليستمر التراشق الإعلامي الحر والحق بكل أدواته، وليلطخ الصحف والكتب والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي بحبره الأسود، ليفضح به العدو والعالم، لتبقى وجوههم ملطخة بالسواد من هذا الكذب.
الصحفيون يستحقون منَّا كل الاحترام والتبجيل، وحفظ مكانتهم، ووضعهم في حيِّز من ذاكرتنا، والله غالب على أمره.