"الفريق الحكومي الواحد".. من البيروقراطية إلى التكامل

 

 

خالد بن حمد الرواحي **

تخيّل مواطنًا يقف في طابور طويل أمام نافذة خدمة حكومية، يحمل ملفًا مكتملًا من الأوراق، فيُفاجأ بالعبارة المعتادة "تحتاج موافقة من جهة أخرى".. يطوي الملف بخيبة، ويُغادر بخطوات متثاقلة، متنقلًا بين وزارة وأخرى بحثًا عن توقيع لا ينتهي. مشهد يتكرر يومًا بعد يوم، حتى صار عنوانًا للهدر… وضياع الوقت.

لكن هذا المشهد لم يعد قدرًا محتومًا؛ فاليوم تُكتب صفحة جديدة بعنوان الفريق الحكومي الواحد، مبادرة تحظى بمباركة سامية ورعاية من الأكاديمية السلطانية للإدارة. جوهرها بسيط في القول، عميق في الأثر: أن تعمل مؤسسات الدولة بروح فريق واحد. وعندما تتوحَّد الجهود، يُختصر الطريق، وتسرع الخدمة، وتستقيم القرارات، ويصل الأثر مباشرة إلى المواطن الذي كان ينتظر طويلًا.

كان غياب التنسيق بين المؤسسات عقبة مزمنة، تدور فيها المُعاملة ككُرة تتقاذفها المكاتب بين اختصاصات متداخلة. ومع كل جولة، يضيع جهد المواطن وتضعف ثقة المجتمع. جاءت المبادرة لتضع حدًا لهذا الدوران، ولتجعل التكامل قاعدة لا استثناء. فمنذ التخطيط وحتى التنفيذ، تتوزع الأدوار بوضوح، وتسقط الازدواجية ويتلاشى التضارب.

ولم تبقَ المبادرة حبرًا على ورق؛ بل ظهرت عمليًا في ملفات حيوية؛ إذ لم يعد توفير فرص العمل مسؤولية وزارة العمل وحدها، ولا جذب الاستثمارات مهمة وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار بمفردها. فقد أصبح الملفان مترابطين، ويقوم نجاحهما على تكامل الأدوار بين المؤسسات الحكومية المركزية والمحلية.

ويبرز هنا دور وزارة الاقتصاد في وضع السياسات الكُلية، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في مواءمة مخرجات التعليم العالي مع متطلبات السوق، وهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في تمكين رواد الأعمال، والهيئة العامة للمناطق الاقتصادية الخاصة والمناطق الحرة في استقطاب المشاريع النوعية، وجهاز الاستثمار العُماني في قيادة الاستثمارات الوطنية، إضافة إلى مكاتب أصحاب المعالي والسعادة المحافظين بصفتها الأقرب لاحتياجات المجتمعات المحلية. أما وزارة الإسكان والتخطيط العمراني وهيئة البيئة؛ فدورهما يتمثل في ضمان وضوح الإجراءات وتوافقها مع متطلبات التخطيط العمراني والحفاظ على البيئة.

هذا التكامل بين المؤسسات لا يختصر الطريق فحسب؛ بل يضمن سرعة التنفيذ ويحوّل القرارات إلى فرص ملموسة على أرض الواقع، بما يفتح المجال أمام خلق فرص عمل حقيقية للمواطنين، ويجعل الاستثمار أداة مباشرة لتعزيز سوق العمل ودفع عجلة التنمية.

وينسجم هذا النهج مع مستهدفات رؤية "عُمان 2040"، التي جعلت الكفاءة وتعزيز ثقة المواطن في صدارة الأولويات. فالمبادرة لا تقف عند حدود تبسيط الإجراءات؛ بل تؤسس لثقافة جديدة ترى أن كل مؤسسة حلقة في سلسلة وطنية واحدة. النجاح هنا لم يعد يُقاس بإنجاز وزارة بعينها، بل بمدى إسهامها في تحقيق الإنجاز الوطني الشامل.

المواطن سيكون الرابح الأكبر من هذا التحول. فالمعاملة التي طالما كانت رحلة شاقة بين المكاتب، يُنتظر أن تصبح أكثر سرعة ووضوحًا وشفافية مع ترسخ روح الفريق الواحد. ومن التراخيص إلى الرعاية الصحية والتعليمية والخدمات الاجتماعية، يبقى الأمل أن يلمس المواطن قريبًا أثر هذه المبادرة في تفاصيل يومه… أثر يختصر الوقت ويعزز الثقة.

الثقة لا تُبنى بالكلمات؛ بل بالفعل الملموس. وحين تأتي القرارات منسجمة ومتسقة، يشعر الناس بقرب مؤسسات الدولة منهم، وأن الجهاز الحكومي يتحرك فعلًا من أجلهم. عندها فقط يتجسد مفهوم «المواطنة الفاعلة»، حيث يصبح المواطن شريكًا في التنمية لا مجرد متلقٍ لها.

إداريًا، هي ثورة هادئة في ثقافة العمل. فهي تدعو الموظف إلى أن يترك حدود مكتبه الضيقة، وينخرط في فريق وطني يتشارك صياغة السياسات وتنفيذها. لم يعد النجاح يقاس بما ينجزه داخل جدران وزارته، بل بقدرته على التنسيق والتكامل مع بقية المؤسسات في خدمة هدف واحد: مصلحة الوطن والمواطن. ويتكامل ذلك مع التحول الرقمي الذي يوفّر منصات موحدة لتبادل البيانات، ويجعل التعاون أكثر سرعة وشفافية.

التغيير لا يُبنى من القمة وحدها، لذلك شملت المبادرة كل المستويات؛ من القيادات العليا إلى الموظفين الميدانيين. لتتشكل بيئة تشاركية غنية بالخبرات والمعرفة، تضمن استدامة الأثر، وتحوّل المبادرة من قرار صادر من الأعلى إلى ممارسة يومية يعيشها الجميع.

ويبقى البُعد المجتمعي هو المحك الحقيقي؛ فنجاح أي مبادرة حكومية لا يُقاس بالخطط والتقارير؛ بل بوقعها على الناس. ومبادرة الفريق الحكومي الواحد تُعزِّز التماسك الداخلي كجدار متين، وتجعل المواطن شريكًا فعليًا في مسيرة التنمية. وحين يرى المواطن مؤسساته تعمل بتناغم لخدمته، تزداد ثقته، ويتحول شعوره بالاطمئنان إلى إحساس أكبر بالمسؤولية تجاه الصالح العام.

إنها أكثر من مجرد مبادرة، إنها ثقافة جديدة عنوانها: "نحن فريق واحد"، ثقافة يحتاجها المجتمع العُماني لمواجهة تحديات الاقتصاد والبيئة والمجتمع، وهي تحديات عابرة للقطاعات لا تعترف بحدود إدارية ضيقة.

قد تكون دول كثيرة سبقت إلى التكامل المؤسسي، لكن للتجربة العُمانية خصوصيتها. فهي تستمد قوتها من جذور مستمدة من القيم الراسخة، قوامها التعاون والتكافل المتأصل في المجتمع، والمترجم اليوم إلى نموذج إداري حديث يجسد طموحات رؤية "عُمان 2040".

إنَّ الفريق الحكومي الواحد ليس شعارًا إداريًا، وإنما مسار عمل وطني حيّ، ورسالة تؤكد أن عُمان قادرة على مواجهة المستقبل بروح الفريق لا بتشتت الجهود، ودعوة إلى كل مسؤول وموظف ومواطن ليرى نفسه جزءًا من منظومة أكبر، غايتها خدمة هذا الوطن ورفعته.

وسيُسجَّل هذا التحول كخط فاصل في ذاكرة الإدارة العُمانية، إذا ما طُبّق على أرض الواقع بجدية والتزام. فهو يمثل انتقالًا من زمن البيروقراطية الثقيلة إلى زمن العمل الوطني المتكامل، حيث تعمل الدولة كلها كفريق واحد… وبروح واحدة.

** باحث متخصص في التطوير الإداري والمالي

الأكثر قراءة