د. محمد شهاب حبيب اللواتي
على مدار يومين متتابعين في 17 و18 سبتمبر 2024، استيقظ لبنان على واحدة من أبشع الجرائم في تاريخه الحديث.
انفجرت سلسلة من أجهزة الاتصال الشخصية – من نوع البيجر واللاسلكي – في وقت واحد، لتتحول من أدوات اتصال بسيطة إلى قنابل موقوتة. كانت الحصيلة مأساوية: عشرات الشهداء من الأطفال والنساء والرجال، وأكثر من ثلاثة آلاف مصاب، بينهم المئات ممن فقدوا أطرافهم أو بصرهم، أو تشوهت وجوههم إلى الأبد.
هذه الجريمة لم تقع في ميدان معركة ولا استهدفت موقعًا عسكريًا، بل ضربت المدنيين في بيوتهم ومدارسهم ومصانعهم ومستشفياتهم. لقد مثّلت فعلًا متكامل الأركان من أفعال إرهاب الدولة، بكل ما يحمله هذا المصطلح من دلالة قانونية وسياسية.
ويعرّف الفقه القانوني والسياسي إرهاب الدولة بأنه استخدام القوة والعنف المنظم من قبل دولة ضد المدنيين، بقصد نشر الرعب وإخضاع المجتمع لأهداف سياسية أو عسكرية.
هذا التعريف ينطبق حرفيًا على السلوك الإسرائيلي منذ نشأة هذا الكيان الاستيطاني. فمن مجزرة دير ياسين (1948)، مرورًا بقبية وكفر قاسم، وصولًا إلى الحصار الخانق على غزة والاعتداءات المتكررة على لبنان وسوريا واليمن، يتضح أن إسرائيل تتعامل مع المدنيين لا كأبرياء محميين بالقانون الدولي، بل كأوراق ضغط وأدوات انتقام جماعي.
حادثة البيجر لم تكن سوى حلقة في هذه السلسلة السوداء: وسيلة اتصال يومية تتحول عمدًا إلى وسيلة قتل جماعي.
المفارقة أن الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الأوروبيين، سارعت دائمًا إلى وصم حركات المقاومة – من حزب الله إلى حماس – بـ"الإرهاب". وفي المقابل، منحت إسرائيل غطاءً سياسيًا وقانونيًا تحت شعار "حق الدفاع عن النفس".
لكن السؤال الجوهري هو: من يملك حق الدفاع عن النفس؟ هل هو الاحتلال الذي يغتصب الأرض ويهجّر أهلها؟ أم الشعوب التي تقاوم من أجل حريتها وكرامتها؟
القانون الدولي يجيب بوضوح:
• المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على حق الشعوب في الدفاع عن النفس ضد أي عدوان.
• البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) يعترف بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في مقاومته بكل الوسائل المشروعة.
وبالتالي، فإن المقاومة الفلسطينية واللبنانية ليست "إرهابًا"، بل ممارسة مشروعة لحق أصيل، بينما إسرائيل، التي تستهدف المدنيين عمدًا، هي التي تنطبق عليها أوصاف الإرهاب.
إن تفجير أجهزة الاتصال لم تكن مجرد عملية عسكرية محدودة. كان رسالة واضحة بأن إسرائيل لا تتورع عن استخدام أكثر الأساليب غدرًا ودموية.
واختيار أداة اتصال شخصية يؤكد العقلية الإسرائيلية القائمة على الخداع والإرهاب النفسي. لقد حوّلت هذه الجريمة المجتمع اللبناني إلى فضاء من الرعب، حيث بات كل جهاز اتصال موضع شك، وكل أداة يومية محتملة للتحول إلى أداة قتل. وهذا هو جوهر الإرهاب: بث الخوف لشلّ إرادة المجتمع.
لكن.. لماذا يغطي الغرب هذه الجرائم أو يتجاهلها؟
الجواب يكمن في طبيعة التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل. فهي ليست مجرد دولة، بل مشروع وظيفي في قلب المنطقة، هدفه إبقاء المنطقة العربية والإسلامية تحت ضغط دائم. كما صرّح أحد المسؤولين الألمان صراحة بقوله: "إسرائيل تقوم بالوظيفة القذرة عنا".
إذن، يُستخدم مصطلح “الإرهاب” كسلاح سياسي:
• تُجرَّم المقاومة بوصفها “إرهابًا”.
• ويُغضّ الطرف عن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل بالصوت والصورة، سواء في مجزرة البيجر أو في غزة.
هذه الازدواجية تقوّض مصداقية المجتمع الدولي، وتحول القانون الدولي إلى أداة بيد الأقوياء.
إن التاريخ يثبت أن مقاومة الاحتلال ليست جريمة، بل حق مشروع للشعوب:
• الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي.
• فيتنام ضد الولايات المتحدة.
• جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري.
ولم يجرؤ أحد على وصف هذه النضالات بأنها إرهاب. بل اعتُبرت نضالات تحرر وطني مشروعة؛ فلماذا يصبح النضال الفلسطيني واللبناني "إرهابًا"؟ الجواب واضح: لأنه يواجه إسرائيل، “الاستثناء” المحمي غربيًا.
حادثة البيجر في سبتمبر 2024 ليست جريمة عابرة. إنها وثيقة دامغة على إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل، وتأكيد على أن هذا الكيان المجرم يواصل منذ تأسيسه سياسة منظمة من القتل والتهجير والترويع.
وفي المقابل، تبقى المقاومة في لبنان وفلسطين حقًا مشروعًا لا يسقط بالتقادم، وامتدادًا طبيعيًا لمسيرة الشعوب في الدفاع عن الحرية والكرامة.
الحقيقة ببساطة أن إسرائيل كيان إرهابي يمارس إرهاب الدولة، وأن المقاومة ليست إرهابًا، بل هي حق مشروع وضرورة تاريخية.
وستبقى هذه الحقيقة شاهدة للتاريخ، مهما حاولت الدعاية الغربية قلب الوقائع.