جابر حسين العُماني **
المُتأمل في تأريخ المُبلغين لرسالات دين الله تعالى، يجد أنَّ التبليغ كان يعتمد على عنصرين أساسيين، وهما: (المنبر) و (المسجد)، فقد كان العلماء يعدون المحاضرات والخطب ويقدمونها للناس في الجوامع والمساجد، بالإضافة إلى التأليف والتحقيق، وأحياناً يرهقون أنفسهم بالسفر وقطع المسافات الطويلة بهدف لقاء الناس وتوعيتهم بالأخلاق والدعوة إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكرَ﴾.
كانت أيام المبلغين صعبة جدًا ولكن استطاعوا بتعبهم وجهدهم، بناء مجتمعات قوية ومتماسكة بأفرادها، أما اليوم فقد تغيرت وسائل التبليغ الديني، فلم تعد الوسائل التقليدية هي الأساس بل تحولت إلى الأفضل، فما كان يوصله المُبلغ سابقًا للناس في شهر كامل، أصبح قادرًا على إيصاله اليوم في أقل من ساعة، وذلك لتوفر الإمكانيات التي جعلت إيصال المعلومة بشكل أفضل وأسرع، وذلك باستخدام الطرق الحديثة، وهي كالآتي:
- أولًا: الإعلام المرئي والمسموع، وذلك من خلال استغلال القنوات الفضائية والإذاعات التي ملأت البلاد العربية والإسلامية.
- ثانيًا: استغلال منصات ومواقع التواصل الاجتماعي باستخدام اليوتيوب والواتساب والانستجرام والبودكاست وغيرها من أدوات التواصل السريع مع الناس في كل بقاع العالم.
- ثالثًا: تحويل الكتب والصحف والمقالات الاجتماعية والأسرية الورقية إلى كتب إلكترونية، مما أتاح وصولها إلى القراء بسهولة ويسر، بحيث أصبح التبليغ يخاطب كل فئات المجتمع ولا يستثني أحداً، وأصبح من السهل جدا تعريف حتى الأطفال بخالقهم وأخلاق نبيهم التي يجب الالتزام بها، وذلك من خلال برامج تبليغية معدة بعناية فائقة تتوافق مع عمر الطفل وإمكانياته.
اليوم نحن في زمن بات فيه رجل الدين قادرًا على الوصول إلى مختلف فئات المجتمع في أي وقت يشاء، وذلك باستخدام أدوات وأساليب تتماشى مع اهتمام أفراد المجتمع، وأصبح بإمكان الجميع التفاعل المباشر مع العلماء والحوار معهم بسهولة ويسر، مهما بعدت المسافات.
لقد تطور العالم، واختلف كثيرًا عن ما كان عليه الآباء والأجداد، وأصبحنا اليوم نعيش في عصر العولمة والحداثة، ولكن علينا أن نعلم جيدًا أن وفرة المعلومات السريعة لا تعني أننا أصبحنا أفضل حالا من الأمس، فلا بد أن نعي أننا نواجه تحديات خطيرة، مثل التشويش الإعلامي، وهجوم العادات الغربية الشرسة، وتسللها إلى مجتمعاتنا وقيمنا الدينية والاجتماعية.
صحيحٌ أنَّ التبليغ كان بالأمس بطيئًا جدًا ولكن كان له عمق وثبات كبيران في نفوس النَّاس، أما اليوم فرغم وفرة المعلومات وغزارتها وسرعة انتشارها إلا أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية باتت تواجه الكثير من الأفكار السطحية، وتراجعا واضحا في القيم والمبادئ مما أصبح يؤرق المجتمع وأفراده.
المُبلغ الناجح في زماننا الحاضر هو القادر على الجمع بين أصالة الأمس وحداثة اليوم بحمكة ودراية وذكاء، بما يتوافق مع الأحكام الشرعية والقيم الاجتماعية، بحيث يكون محافظا على الروح الإيمانية والأخلاق الإسلامية بتوظيف الإمكانيات الحديثة بوعي وعلم، ولا يكون ذلك إلا بمخاطبة عقول الناس وقلوبهم بود واحترام وإجلال.
نعيش جميعا في زمن غلبت عليه السرعة، وكثافة المعلومات السطحية، والإشاعات المغرضة، مما جعل من مهمة المبلغين أكثر دقة في إيصال المفاهيم الدينية والأخلاقية إلى المجتمعات المختلفة، وهنا ينبغي على من يمارس مهنة التبليغ العمل على الوصول إلى قلوب الناس، ولا يمكن ذلك إلا بتطبيق الآتي:
- أولًا: استخدام اللغة المناسبة للعصر، فليس من السليم التركيز فقط على الخطاب القديم، لذا ينبغي أن تعد المحاضرات والخطب بما يتناسب مع الفكر الحديث بحيث تكون ذات لغة سهلة ومباشرة، خالية من أي تعقيدات وصعوبات، ومليئة بالتشويق والإثارة.
- ثانيًا: الاختصار واجتناب الإطالة، ففي زمن السرعة والحداثة لا مكان للخطب الطويلة والمملة في قلوب الناس، لذا ينبغي التركيز على العبارات المؤثرة والمشاهد الجاذبة، والأمثلة الحية من الواقع، التي تحتوي على الفكر الناضج الذي يقرب ولا يبعد، ويحبب ولا يبغض.
- ثالثًا: التركيز على استخدام الوسائل الحديثة في التبليغ لأهميتها في إيصال الرسالة إلى الناس، ومن لا يستخدم الفضاء الإلكتروني في زمن الحداثة حتمًا سيفوته الوصول إلى أكبر عدد من الناس.
- رابعًا: التركيز على ذكر المصادر العلمية التي يجب أن يستند عليها المبلغ، وطرحها للناس عند كل خطاب لتكون الحجة بالغة ومُقنعة وجاذبة ومشوقة للناس، ومبنية على حقائق علمية رصينة.
- خامسًا: على المبلغ أن يكون متواضعا للناس، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، يحل عليهم كالمطر، يصلهم بلطف وحب ووئام، ويكون بينهم مباركا حيثما كان.
أخيرًا.. إنَّ المبلغ الناجح هو الإنسان القادر على مخاطبة العقل والروح والوجدان، دون استعلاء على أحد، وهو لا يحدد بشخصية دينية تقليدية فحسب، وإنما كل من يحمل في داخله حب هداية الناس وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم، والمبلغ الحقيقي هو من يكون قادرا على هداية الناس وإرجاعهم إلى الله تعالى، من خلال صناعة محتوى هادف يخدم به الناس، بحيث يعتمد من خلاله على الأدوات العلمية الموثوقة التي تؤهله أن يكون مؤثرا ناجحا في المجتمع، وكما قال نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب " فَوَاَللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اَللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ اَلنَّعَمِ".
** عضو الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء