العدوان على الشقيقة قطر.. الدرس الذي لا يحتمل التأجيل

 

 

 

عبدالنبي الشعلة

 

انزلق الصراع العربي الإسرائيلي في الأيام الأخيرة إلى منحدر أشد خطورة، حين أقدمت إسرائيل على شن عدوان آثم على دولة قطر الشقيقة في وضح النهار. لم يكن الهجوم مجرد حدث عسكري عابر، بل محطة مفصلية تكشف عن حقائق ومستجدات ستفرض على دول المنطقة إعادة النظر في كثير من قناعاتها وسياساتها وممارساتها.
العدوان وقع في ظل وجود أكبر قاعدة جوية للولايات المتحدة في المنطقة على الأراضي القطرية، وهي قاعدة العديد المعروفة بإمكاناتها الضخمة وتجهيزاتها الحديثة من رادارات وأجهزة استطلاع ورصد وتجسس ومراقبة دقيقة. ومن البديهي أن هذه المنظومات رصدت الطائرات المهاجمة منذ لحظة إقلاعها وحتى دخولها الأجواء القطرية، ومع ذلك لم تُحرّك ساكنًا للتصدي لها؛ بل إن المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد بأن العملية تمت بعلم أو بموافقة أو حتى بتسهيل من الإدارة الأميركية، وهو ما يضع أكثر من علامة استفهام حول طبيعة "التحالف" الذي نعلّق عليه آمالنا في حماية أمننا واستقرارنا.
إن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: ما جدوى القواعد الأجنبية التي تستضيفها بعض دولنا الخليجية؟ إذا كانت أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة لم تمنع الاعتداء على دولة مضيفة حليفة، فما الفائدة المرجوّة؟ وبغض النظر عن طبيعة الإجابة، يبقى الدرس الأوضح أن الاعتماد على القوى الأجنبية للدفاع عن أوطاننا لم يعد ممكنًا، وأن الثقة في تلك القوى باتت مفقودة، وأن علينا نحن- أبناء هذه المنطقة- أن نبادر إلى تحمّل مسؤولياتنا في حماية أنفسنا ومصائرنا.
إن بناء منظومة دفاعية خليجية مشتركة لم يعد خيارًا مؤجلًا؛ بل صار ضرورة وجودية لا تحتمل الانتظار. لسنا عاجزين عن ذلك؛ فمواردنا الاقتصادية هائلة، وسكان دول مجلس التعاون يتجاوزون 61 مليون نسمة، حتى لو افترضنا أن نصفهم من الوافدين، فإن 30 مليون خليجي يكفون لتشكيل قاعدة بشرية للدفاع المشترك. التجارب حولنا تقدم نماذج صارخة: فدولة صغيرة مثل كوريا الشمالية، برغم الحصار الخانق وقلة الموارد وعدد السكان الذي لا يبلغ 27 مليونًا، استطاعت أن تبني لنفسها قوة عسكرية رادعة تحميها من أي تهديد خارجي. أفلا نستطيع نحن، بما نملكه من ثروات ومقدرات، أن نؤسس لنظام دفاعي حقيقي يردع كل طامع؟
لقد جاء العدوان على قطر ليعيد إحياء فكرة "درع الجزيرة"، التي أُنشئت أصلًا لحماية أمن الخليج، لكنها أهملت وتراجعت فعاليتها مع مرور الزمن. وما شهدناه من تحركات واتصالات مكثفة بين قادة دول المجلس بعد الهجوم يبعث على الأمل؛ إذ ربما أدرك الجميع أن المصالح والمصائر المشتركة تفرض تجاوز الخلافات ورص الصفوف، وأن الخطر لم يعد يستثني دولة بعينها أو مجتمعًا بعينه؛ بل يستهدف المنطقة كلها. فإذا لم نستوعب هذا الدرس اليوم، فلن نلوم غدًا إلا أنفسنا.
لكن العدوان على قطر لا يقف عند حدوده العسكرية والأمنية؛ بل يتعداها إلى إعادة رسم ملامح وموازين القوى في المنطقة وإعادة تشكيل منظومة العلاقات الخارجية لدولها. أرى أن هذا التطور يمثل أخطر ما شهدناه منذ السابع من أكتوبر 2023، وأخطر تداعيات يوم عملية "طوفان الأقصى" التي وصفتُها في حينها بالكارثة، رغم تحفظ واعتراض كثيرين على ذلك الوصف. والحقيقة أن إسرائيل بعد ذلك اليوم لم تعد كما كانت قبله؛ إذ تكرّس صعود اليمين المتطرف وهيمنته على القرار السياسي، وتمكّن نتنياهو من اختطاف إرادة الشعب الإسرائيلي وإسكات أصوات السلام، ما يجعل من المستحيل النظر إليها كشريك موثوق في أي عملية سياسية ما دامت واقعة تحت سيطرة نتنياهو والتيارات الصهيونية العنصرية المتطرفة.
وفي مقابل هذا المشهد القاتم، يطل سؤال آخر: ما جدوى مؤتمرات القمم العربية والإسلامية؟ لقد خبرنا على مدى عقود أنها لم تكن سوى مضيعة للوقت والجهد والمال، ونادرًا ما أثمرت نتائج عملية على الأرض. ومع ذلك، يبقى لنا أن نتمنى النجاح للقمة الإسلامية التي تعقد اليوم في الدوحة، لعلها تشكّل بداية صحوة حقيقية تدفع باتجاه مقاربة مختلفة.
أما القضية الفلسطينية العادلة، فإنها تظل محورًا مركزيًا لا يمكن تجاهله. إنني- ومعي ملايين العرب والمسلمين، بل وكل الشعوب المحبة للسلام- أؤمن بأن العنف والحروب لن تجلب الحل ولا السلام. تجاربنا المريرة أثبتت أن القوة العسكرية ليست في صالحنا، وأن الكلفة البشرية والمادية لا تُحتمل، وأن مسار الحرب لن يحقق لا الاستقرار لإسرائيل ولا استرداد الحقوق المشروعة للفلسطينيين. وحده المسار السلمي، عبر التفاوض الجاد، يمكن أن يقود إلى نتيجة، وهو ما أكدت عليه "مبادرة السلام العربية" التي أطلقها المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز طيب الله ثراه في العام 2002، والتي ما تزال حتى اليوم الإطار الواقعي الأكثر توازنًا لإيجاد تسوية عادلة ودائمة.
إن الموقف المبدئي الذي ننطلق منه هو رفض كل أشكال العدوان والإرهاب والعنف، أيًا كان مصدرها أو غاياتها، والتأكيد أن السبيل الوحيد لضمان أمن منطقتنا واستقرارها يبدأ أولًا من وحدتنا الداخلية، وبناء قدرتنا الدفاعية المشتركة، وثانيًا من تمسكنا بخيار السلم والمفاوضات باعتباره الخيار الاستراتيجي الأوحد القادر على إنصاف الشعب الفلسطيني وتحقيق الأمن للجميع.
لقد بلغ السيل الزبى. فإما أن نخرج من هذه اللحظة التاريخية أكثر وعيًا وصلابة واتحادًا، أو أن نستسلم لمصير يكتبه الآخرون عوضًا عنَّا.

الأكثر قراءة