الوظيفة عقد عمل.. لا عقد مشاعر

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

هل نقضي ثماني ساعات يوميًا في العمل لننتج، أم لنطارد رضا الآخرين؟ ثماني ساعات للإنتاج لا للمُجاملات، والسؤال الأهم: كيف نصنع بيئة تُنصف الجهد وتُعيد للموظف رضاه وللمؤسسة إنتاجها؟

في بيئة العمل، لا تخلو الاستشارات من شكاوى عن علاقات سامة: زميل يحسد، وآخر يُعرقل، وثالث ينقل الكلام للمدير. لكن ما يغيب غالبًا هو السؤال الأعمق: كيف أبدع؟ وكيف أقدّم قيمة جديدة تضيف لي ولمؤسستي؟ المشكلة أن كثيرًا من الموظفين يرفعون سقف التوقعات، فيريدون من المدير أن يحبهم، ومن الزملاء أن يحيطوهم بالود؛ مع أن العمل ليس ساحة عاطفية، بل عقد واضح: جهدٌ مقابل أجر، والتزامٌ مقابل تقدير.

علاقات العمل بطبيعتها مُؤقتة ومُنتظمة. قد تعمل خمسة عشر عامًا في مؤسسة، وفي النهاية لا تخرج إلا بصديق أو اثنين، وهذا طبيعي. فالساعات الثماني اليومية وُجدت للإنتاج والإنجاز، لا لبناء الولاءات أو مطاردة الرضا. وحين يرفع الموظف سقف التوقعات، أو ينشغل بعض المديرين بالشائعات… هنا تضيع روح العمل الحقيقية.

وإذا كان هذا واقع العلاقات في العموم، فإنَّ التجربة العُمانية تكشف مفارقة أوضح؛ فالموظف خارج عمله مضياف، مبتسم، كريم الخُلق، لكن ما إن يدخل مكتبه قد يتجرد من هذه القيم. ولو نقل تلك الأخلاق العُمانية الأصيلة إلى عمله، لخلق بيئة أكثر احترامًا وعدلًا، دون الحاجة إلى كثير من البرامج والدورات.

ومن اللافت أيضًا أنَّ كثيرًا من الموظفين يظنون أن غيرهم أكثر حظًا، وأن الجهة الأخرى أفضل من مكان عملهم، وأن مديريها أعدل وأكثر تفهمًا. غير أن الواقع يثبت أن هذه المقارنات في أغلبها وهمية؛ فكل مؤسسة لها تحدياتها ومشكلاتها. وحين يدرك الموظف أن الراحة المطلقة في العمل غير موجودة، يصبح أكثر واقعية، وأقدر على التعامل مع الضغوط.

لكن الخلل لا يقتصر على الموظف؛ فكثير من المسؤولين المباشرين يبنون قناعاتهم على ما يُنقل إليهم من أخبار دون تحقق، فيكافأ ناقلو الشائعات، بينما يُهمَّش المنتجون. هذه الممارسات تُضعف العدالة في بيئة العمل، وتولد الإحباط وهجرة الكفاءات. وتشير دراسات دولية- مثل تقرير القيادة العالمي الصادر عن معهد تطوير القيادةDDI - إلى أن 57% من الموظفين غادروا وظائفهم بسبب مشكلاتهم مع المدير المباشر أو لغياب التقدير. وما أكده هذا التقرير ينسجم مع ما تعكسه بعض تجارب بيئات العمل المحلية؛ إذ إن جانبًا من الاستقالات يرتبط بالمدير المباشر لا بطبيعة الوظيفة.

أيها الموظف… تذكّر أن أمامك 3 طرق للتعامل مع مسؤول مُزعج أو زميل سلبي: الأولى أن تحاول تغييره، فإن لم تستطع فانتقل إلى الخيار الثاني، وهو التكيف معه. وإذا استحال التغيير أو التكيف، فهناك الخيار الثالث، وهو البحث عن بيئة أخرى أو الانتقال إلى عمل جديد. والتكيف له 3 أبعاد أساسية: عدم التعميم، فلا تظن أن كل المسؤولين مثله؛ عدم التشخيص، فلا تعتبر نفسك المستهدف دائمًا؛ وعدم الديمومة، فكل وضع مؤقت وقابل للتغيير. بهذا المنطق يصبح التعامل مع السلوكيات السلبية أكثر وعيًا وأقل كلفة نفسية.

ومع ذلك، تبقى بيئة العمل نفسها بحاجة إلى إصلاح؛ فالعدالة، والتحفيز، والاعتراف بالجهد، ليست مجرد قيم أخلاقية، بل مفاتيح أساسية لبناء بيئة أكثر صحة وقدرة على رفع الإنتاجية. المطلوب أن يُشكر الموظف على جهده، وأن يُبرز عمله دون أن يُنسب لغيره، وألّا تُسرق ثمرة تعبه لصالح طرف آخر. فالمؤسسات لا تُقاس بعدد تقاريرها أو ساعات حضور موظفيها؛ بل بما تخلقه من بيئة عادلة ومحفِّزة تُطلق طاقات موظفيها نحو إنتاج أفضل.

ودور المسؤول هنا يتجاوز توزيع المهام ومراقبة الأداء، إلى القدرة على التأثير في مشاعر موظفيه. فالكلمة المشجعة، والاعتراف بالجهد، والعدل في القرارات، كلها أدوات قيادية قادرة على رفع الروح المعنوية، وتعزيز الانتماء؛ فالمسؤول الناجح لا ينحصر دوره في متابعة الحضور والانصراف، أو التدقيق في التقارير والأمور التنظيمية البحتة؛ بل يتجاوز ذلك إلى جوهر القيادة: التأثير والتحفيز. فالإنتاجية لا تتحقق بالرقابة وحدها، وإنما حين يشعر الموظف بالإنصاف والتقدير والثقة، فيندفع للعمل بطاقة أكبر، ويحقق نتائج أعمق.

ختامًا.. الوظيفة ليست عقد مشاعر؛ بل عقد عمل. لذا.. اجعل ساعاتك الثماني ثمرة إنجاز؛ فالإنتاج هو الحب الوحيد الذي يفهمه العمل.

 

 

 

الأكثر قراءة