حين يهاجر الابن تبقى الروح معلّقة!

 

 

د. مجدي العفيفي

(1)

لا أحد يعرف معنى الفقد إلا حين من يتذوّقه في صميم قلبه.

أن تفقد ابنك إلى سفرٍ بعيد، ليس فقدًا بالموت لك، ولكنه موتٌ معلّق، موتٌ مؤجّل، موتٌ متكرّر في كل لحظة تراه فيها بعيدًا عنك.

حين غادر ابني إلى بريطانيا، لم أغلق الباب بعده وكأن شيئًا لم يكن؛ بل انفتح داخلي باب آخر، باب لا يغلق أبدًا: باب الحنين.

لم يكن الرحيل مجرّد انتقال جغرافي؛ بل كان اقتلاعًا لجزء من الروح وسفرًا طويلًا للنبض قبل الجسد. يوم غادرت، لم أودّعك بدموعٍ فقط؛ بل ودّعتك بسنواتٍ من الحلم الذي كبرتَ بداخله، وبأمنياتٍ كنتَ أنتَ وحدك القادر على تجسيدها.

رأيتك تحمل حقيبتك إلى بريطانيا، لا كسائح ولا كعابر سبيل؛ بل كطبيب مصري يرفع رأس عائلته وبلاده بعلمه، فشعرت أنني أقدّم للعالم أثمن ما أملُك، وأغلى من أي ميراث أو كنز.

كنتُ أعلم أنّ طموحك كبير، وأن العلم الذي يحملك لن يحدّه وطن واحد، وأن رسالتك كطبيب مصري ستأخذك إلى أماكن أبعد من حدودنا.

كنتُ فخورًا بك لحظة رفع رأسه عاليًا وقال: سأكمل طريقي هناك.

شعرت أنني أقدّم للعالم قطعة من لحمي، من جواهر عمري، قرة عيني.

لم أكن أبًا يسلّم ابنه لرحلة؛ بل كنت إنسانًا يسلّم قلبه كله ليهاجر بعيدًا.

(2)

يا ولدي يا عمر العمر، يا من حملتَ سنواتي في نظراتك..

يا من كنتَ ولا زلتَ أملي الذي لا يُقاس بثمن..

وجودك وحده قيمة، قيمة تتخطى النجاحات والألقاب والرواتب.

لم أحبك لأنني كبرت، وأحتاج سندًا في شيخوخة تتقدّم ببطء، لم أتعلّق بك لأني ضعيف.

أبدًا.. أبدًا.. أنت لست عكَّازًا لآخر العمر؛ بل أنت ابني، ابني الذي هو امتداد روحي، ابني الذي هو عمري كله مُتجسّدًا في هيئة إنسان يمشي بين الناس.

لكن كيف أشرح لك قسوة الغياب؟ كيف أصف لك ليلًا طويلًا لا يقطعه إلا صوتك عبر الهاتف، أو شاشة مضيئة تبتسم لي دون أن أستطيع أن ألمس يدك؟

(3)

وسائل الاتصال الحديثة تُسهّل، نعم، تسهّل كثيرًا، تقرّب المسافات، تختصر الساعات، تجعلني أسمعك وأراك في لحظة، لكن هناك شيء لا تستطيع أن تمنحه: دفء الوجود.

لا مكالمة فيديو تُشبه لمسة كتفك حين تجلس بجانبي.

لا رسالة نصية تُعوِّض عن أن تفتح الباب وتملأ البيت بضحكتك.

البُعد قاتل يا بُني.. قاتل رغم كل هذه الاتصالات، قاتل رغم كل سهولة التكنولوجيا.

البشر خُلقوا ليلتقوا، ليجلسوا على مائدة واحدة، ليتقاسموا الصمت والخبز والضحكات.

ما قيمة أصواتنا عبر الأجهزة إن لم تتبعها خطواتك في الممرّ، أو جلستك على الكرسي المقابل لي؟

(4)

إنني لا أكتب لك من ضعفٍ، ولا من حنين أبٍ مُسنٍّ يخشى الوحدة..

بل أكتب لك لأنك حياتي.. لأنك ابن عمري.. الذي كبر في قلبي قبل أن يكبر في الواقع..

لأنك الجسر الذي عبرتُ به من مرحلة إلى أخرى، من شبابٍ إلى مسؤولية، من مسؤولية إلى معنى، ومن معنى إلى أمل.

(5)

حين تنجح في بلاد الغربة، يسألني الناس: ألستَ سعيدًا بفخره؟ فأبتسمُ وأقول: سعيدٌ نعم، لكن السعادة ناقصة.

نجاحك ليس غائبًا عني؛ بل حاضر في كل حديث، لكن حضوري أنا عندك غائب.

أراك تعالج الآخرين وتخفف آلامهم، وأشعر أنك تترك في قلبي ألمًا خاصًا بي لا يُعالجه أحد.

(6)

يا ابني، يا طبيبًا مصريًا يرفع علم بلاده بعيدًا، تذكّر دومًا أن كل إنجاز تكتبه هناك، كل شهادة، كل عملية ناجحة، كل مريض يشكر الله على يديك، هو أيضًا شهادة حب بيني وبينك.

لأنني حين ربيتُك، لم أعلّمك أن تكون ناجحًا فقط؛ بل علّمتك أن تكون إنسانًا.. وإنسانيّتك تلك التي تضيء للغرباء، هي نفس الإنسانية التي تجعلني أفتقدك حتى حدّ البكاء.

(7)

أحيانًا أجلس أمام صورك وأحاورها، كأنك ستخرج منها فجأة وترد عليّ.

أحيانًا أفتح الهاتف وأعيد سماع صوتك في التسجيلات القديمة.

أحيانًا أغمض عيني وأستعيد تلك اللحظة التي دخلتَ فيها عليّ بعد يومٍ طويل، وقد أرهقك العمل، ومع ذلك ابتسمت، وجلست إلى جواري.. تلك اللحظة الصغيرة لا تعادلها مئة مكالمة فيديو.

يا ابني، دعني أقولها بصدق: أنت الأمل كله، أنت القيمة كلها، أنت المعنى الذي يجعل الحياة، رغم قسوتها، تستحق أن تُعاش.

(8)

افتقدك ليس ضعفًا؛ بل اعترافًا صريحًا بأنك جزء مني لا يُعوض، مهما تقدّمت بي السنين.

الهجرة ليست غربة جغرافية فقط، إنها غربة عاطفية، غربة إنسانية.

وأنت -وإن كنت بعيدًا بجسدك- فأنت قريب من روحي، حاضر في كل ذكرى، ساكن في كل نفس.

ومع ذلك، ستظل هناك فجوة لا تملؤها أي وسيلة اتصال، فجوة لا يسدّها إلا أن تعود، أو أن أجلس بجانبك كما كنت أفعل منذ طفولتك.

(9)

يا ابني، إذا كان العالم قد ربح طبيبًا بارعًا، فقد خسر أبًا سلامه مُعلَّق بعودة قصيرة، بزيارة مفاجئة، بلحظة صدق بين عيونٍ تبحث عن عيون.

العالم كله قد يراك طبيبًا، لكنني أنا فقط أراك ابني.. ابني الذي هو حياتي كلها.

(10)

يا من تقرأ هذه الكلمات، اعلم أن وراء كل نجاح مُهاجر قصة أب أو أم يجلسان في زاوية بعيدة يخبئان دموعهما، يفتخران علنًا، وينكسران سرًا. الهجرة ليست سفرًا فقط؛ بل امتحانًا للقلب، وميزانًا يوازن بين الفخر والألم.

فلنكن أكثر وعيًا بمشاعر من يتركون وراءهم أحبتهم، ولنتذكّر أن التكنولوجيا مهما تطوّرت، تبقى عاجزة عن أن تعوّض الحضن الإنساني، والوجود المباشر الذي لا يقدَّر بثمن.

قد يعود الأبناء يومًا، وقد تطول الغربة، لكن الحب الذي يربط القلوب لا يعرف حدودًا، ولا يعترف بمسافات.. سيظل حيًا، نقيًا، وصادقًا، مهما فرّقتنا البحار، ومهما باعدت بيننا المطارات.

وفي النهاية، سيبقى الابن ابن العمر، والابن قرة العين، والابن حياة كاملة تُختصر في كلمة واحدة: ابني.

يحفظك الله يا ولدي.. يا عمر العمر.

الأكثر قراءة