خالد بن سعد الشنفري
لا يشدّني كثيرًا انتشار جلوس العوائل والأسر الزائرة إلى صلالة مع عوائلهم وركن سياراتهم، سواء التي جاءوا عليها من مناطقهم أو استأجروها من الداخل، وذلك في كلّ رقعة من سهولها (جرابيبها) الخضراء أو هضابها ومُرتفعاتها ووديانها، لأنهم أساسًا جاءوا لذلك.. لحضن الطبيعة الخلابة البِكر التي تتجدد كل عام بقدرة الخالق، وليس لما يُقدَّم فيها من خدمات؛ لأن هذه الأخيرة تتشابه في أي مكان يقصده الإنسان لغرض السياحة في العالم، وهي من صنع المخلوق. وحبذا لو اجتمع الاثنان: طبيعة وخدمات، نجحت الجهات القائمة عليها وعلى رأسها بلدية ظفار بتقديمها بمنتهى الرقي والتنوع والاقتدار والتطوير كل عام، وهذا لم يعد يخفى إلا على من بعينه قذى أو عوار -لا قدّر الله.
العنوان أعلاه لمقالي هذا اليوم هو استكمال لمقال سابق شبيه في موضوعه نُشر لي بجريدة الرؤية قبل أربعة أعوام من الآن؛ وذلك تحت عنوان: "الحج إلى ظفار" اقرأ المقال: https://alroya.om/p/288743.
ذلك أنني وأنا في طريقي مرورًا بسيارتي على الشارع البحري بالحافة، الذي تعوّدت أن أزوره بين الفينة والفينة وبالذات في موسم الخريف لاستعادة بعض ذكريات طفولتي هناك، وخصوصًا ذكريات الخريف التي تجول في الذاكرة، وانطلاقًا من انعطافي من مخرج شارع السلطان قابوس إلى السوق القديم للبخور والعطور إلى حيث البوابة الشرقية لسور قصر الحصن العامر الخارجي وسوق شاطئ الحافة التراثي الجديد، مرورًا تحت أشجار نخيل النارجيل المحاذية للسور، ومن ثم إلى مقر فعاليات سوق اللبان؛ وصولًا إلى سور البليد الغربي ومقاهيه العشرة الأنيقة المطلة على البحر، تشدّني بالذات دائمًا مناظر انتشار جلوس العوائل الملحوظ في انسجامٍ وفرحٍ غامر؛ سواء تحت أشجار نخيل النارجيل المعمّرة المنتشرة هناك، أو على رمال الشاطئ؛ وذلك على طول امتداد هذا الشاطئ الفضيّ الجميل، تحت رشقات رذاذ الخريف المنعشة وضبابه الذي يلفّ ويحتضن المنطقة برمّتها، والأمواج التي تعزف بدورها بلا انقطاع سيمفونيتها على إيقاع حفيف أغصان نخيل النارجيل في تناغم بديع.
لا شك أن المنظر هنا يأسر كل من يمرّ به، فينتبذ له منه مكانًا شرقيًا أو غربيًا ويفترش الرمال أو العشب، ليلتصق بالأرض وبالطبيعة البكر الغنّاء في أبهى صورها وأروع حللها، على خلفية من عبق التاريخ بروائح لبانه، وخلفية أطلال المنطقة التراثية للحافة التي أخذت في الكشف التدريجي عن نقابها الذي تلحفت به استعدادًا لكشف ما رُمِّم وطُوِّر منها. ويبدأون في نصب أباريق الشاي والقهوة على مواقد الغاز المحمولة الصغيرة التي أصبحت ضمن مستلزمات عدة الرحلات التي تنتشر محلات بيعها في أرجاء صلالة في الخريف، لتوضع في خزائن السيارات الخلفية استعدادًا لأي توقّف في موقع يطيب لهم التخييم به، مع الكراسي والخيام الخفيفة وغيرها من مقتنيات الرحلات الخارجية؛ حيث إن صلالة وبحرها وسهولها وجبالها تصبح جميعها حديقة غنّاء وغابة مطيرة تدفعك للتمترس مع أسرتك في أي موقع منها، ويحلوا للبعض أن ينجز شواءه أو طبخته المفضّلة من خيرات أطعمتها وفواكهها الاستوائية المتعددة والمتنوعة.
الكل يجد له موقعًا في هذا الفضاء الممتد على هذا الشاطئ الجميل لعدة كيلومترات، سواء كانت سياراتهم كرفانًا أو فانًا أو دفعًا رباعيًا أو حتى سيارة صالون.
ذكّرتني هذه المناظر والتجمعات هنا بمناظر أفواج الحجيج أو (الحجاجيين) كما كنّا نطلق عليهم في ستينيات القرن الماضي، الذين كانوا يترددون علينا أيامها بانتظام طوال العام، ويقضون بيننا تحت هذه النخيل على الشواطئ أيامًا وأشهرًا أحيانًا إذا تعذّر عليهم إيجاد "عَبْرة" بحرية تقلّهم إلى مقاصدهم الأخيرة. وقد ذكرتُ كل ذلك وفصّلته كما أتذكره وشاهدته بأم عيني طفلًا في المقال السابق المشار إليه أعلاه.
هناك بالطبع فوارق في جوانب كثيرة بين نوعي الحجيج إلينا سابقًا وحاليًا؛ إذ إن حجيج الأمس البعيد سيجده من أراد معرفة تفاصيله في مقالي القديم، وما عليه إلا الضغط على الرابط. أما الحجيج الحالي فهم أسر وعوائل من إخوة أعزاء لنا من دول الخليج وباقي محافظات سلطنتنا الحبيبة، أتوا هربًا من لهيب الصيف للاستمتاع بأجواء الخريف الاستثنائية المعتدلة في أجواء الطبيعة البكر، يقضون معظم ساعات نهارهم وسطها، سواء هنا على الشاطئ وتحت النخيل أو في السهول الخضراء المنبسطة والممتدة على مد البصر على طول سهل ظفار من المغسيل في الغرب إلى مرباط في الشرق. إنها نعم البساطة والانبساط، ونِعْم ضيوفها ومُضيفيها، فهم أهل لنا وأصحاب دار.
بعد انقضاء موسم الخريف وطوال موسمي الصرب والشتاء اللذين يليانه، يتكرر الحجيج إلى شاطئ الحافة حصريًا هذه المرة وتحت نخيل نارجيلها، ولكن في هذين الفصلين الأخيرين للذين تخفت فيهما معزوفات الموج ويعوضها حفيف أغصان النارجيل سريعة الإيقاع مع ارتفاع نغماتها، وتحتضنهم وكرفاناتهم ظلالها. أما أشكال وسحنات هؤلاء الزوار الأخيرين فتختلف بطبيعة الحال عن سحنة وزوّار الخريف، ويحل محلها السحنة الأوروبية الشقراء.
عمار يا ظفار عمار.. كل فصل فيك له زواره ومرتادوه ومحبّوه. دائمًا تحتضنين الجميع، وتجتذبين الكل، ويستحيل أن ينساك من زارك. أيّ سرٍّ من أسرارك وضعه الخالق المصوّر فيك؟ وأيّ حبٍّ تهبينه لمن يزورك فينجذب إليك ويتعلّق بك؟
دمتِ لنا ولعُماننا الحبيبة بعناية الرحمن الرحيم، ودمتِ لزوّارك في كل مواسمك يا جنة الله في أرضه.