بين الصلاحيات والسُلطة.. الفارق الذي يصنع القادة!

 

 

 

محمد بن علي الرواحي

 

ليست السلطة دائمًا ما يُرفع من شعارات، ولا الصلاحيات مجرد ما يُدوَّن في لوائح جامدة؛ فبين الاثنين مساحة دقيقة، إن أُحسن فهمها صارت عدلًا، وإن أُسيء استخدامها تحوّلت إلى عبء يثقل الإنسان والمؤسسة معًا، في تلك المساحة يتشكّل الفرق بين قائدٍ يُلهم ومسؤولٍ يُرهِق، وبين قرارٍ يبني وآخر يهدم من حيث لا يشعر.

وتتجلّى هذه المساحة بوضوح حين ننظر إلى نوعيات المديرين؛ فثمّة مدير يرى في الصلاحيات حصنًا شخصيًا، يلوذ به ليُثبت وجوده، ويقيس نجاحه بمدى اتساع دائرة الخوف من حوله، وآخر يتعامل معها كأداة تنظيم، يوزّعها بوعي، ويُشرك فريقه فيها ليصنع إنجازًا جماعيًا لا بطولة فردية، وبين هذين النموذجين تتفاوت بيئات العمل، وتختلف جودة الأداء، وتُصاغ ثقافة المؤسسة إمّا انفتاحًا أو انغلاقًا.

الصلاحيات في جوهرها أدوات عمل، ووسائل تنظيم، وحدود وُضعت لتسهيل الإنجاز لا لتعطيله، ولحماية النظام لا لخنقه، أمّا السلطة، فهي روح التأثير، وقوة الحضور، وثقل الكلمة حين تُقال في وقتها، غير أنّ الخطر كلّ الخطر أن تختلط الأداة بالغاية، وأن تتحوّل الصلاحية من وسيلة خدمة إلى ذريعة سيطرة، ومن إطار قانوني إلى سلاحٍ صامت.

ومن هنا تأتي أهمية إطلاق الصلاحيات وتنظيمها؛ فالإطلاق الواعي لا يعني الفوضى، والتنظيم لا يعني التضييق، إنما هو توازن دقيق بين الثقة والمساءلة، بين التفويض والمتابعة، حيث يُمنح الفرد مساحة القرار بقدر ما يُحمَّل مسؤولية نتائجه، فالمؤسسات التي تُحسن توزيع الصلاحيات، تُخفّف العبء عن القمة، وتُنمّي الكفاءة في القاعدة، وتصنع صفًا ثانيًا من القادة لا موظفين ينتظرون التوجيه.

كم من مؤسسات امتلكت أنظمة دقيقة، لكنها افتقدت العدالة، وكم من مسؤولين مُنحوا صلاحيات واسعة، فضيّقوا بها على الناس بدل أن يفتحوا بها الأبواب، فالسلطة التي لا يرافقها وعي أخلاقي تشبه نورًا بلا دفء؛ يضيء الطريق لكنه لا يبعث الطمأنينة، والصلاحيات التي تُمارَس بلا حكمة كقلمٍ يكتب كثيرًا ولا يقول شيئًا.

ويظهر الفرق الحقيقي بين الصلاحيات والسلطة عند المواقف الحرجة؛ حين يُختبر الإنسان لا النص، ويُقاس الضمير لا التوقيع، هناك يتجلّى المدير القائد، لا مدير الإجراءات؛ ذاك الذي يعرف متى يستخدم حقه؟، ومتى يتنازل عنه؟؛ لأن التنازل في بعض اللحظات أرقى مراتب القوة، وأصدق تجليات القيادة.

فالسلطة المستمدة من الاحترام أطول عمرًا من تلك المفروضة بالخوف، والصلاحيات التي تُدار بروح المسؤولية أعمق أثرًا من تلك التي تُمارَس بمنطق الأمر، وفي عالم تتكاثر فيه القوانين، يظلّ الإنسان هو الفيصل: إمّا أن يجعل من الصلاحيات جسرًا للثقة، ومن السلطة مظلّةً للعدل، أو أن يحوّلهما إلى جدار يفصل بينه وبين من حوله.

وهكذا يبقى السؤال مفتوحًا في كل موقع ومسؤولية: هل نمتلك الصلاحيات لنخدم بها الناس، أم نمارس السلطة ليُقال إننا موجودون؟، بين هذا وذاك تُصاغ سِيَر القادة، وتُقاس قيمة المؤسسات.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z