ماجد المرهون
غزة باقية تالدة كروحٍ في جسد لا يُعلم سِرها سكنتهُ أم فارقته، فهي ومنذ نفختِها الأولى خالدةٌ إلى ما بعد يوم الدين، كعروق التين الجافّة في قلب أرضٍ تحتضنُ الجد الثاني لسيد الأولين والآخرين، والطين المُعفّر بالزيتون يُغذي فيها وتين النصر المكين من تُخومِ طابا ورمال النقب إلى الشوبك ورفح وحطين، ليُنبت مع جريان دماءِ شُهدائها مجاهدون بالموت مخضّبون وهم يرددون صرخة صلاح الدين في قسمهِ الأسطوري "والله سأقتله بيدي" ويقصد أرناط دي شاتيون وقد وفى الناصر بالقسم وأطاح برأس الملعون.
هل قبِلت قريش على المسلمين الجوع في شعب أبي طالب؟! بالطبع لم تقبل ألا ليت فينا نخوةُ زهير بن أبي أمية والمُطعِم بن عدي، ألم يطل الحصار؟! ألم يعتصِرنا الألم والإنسانية المشبوهةِ لا تألم؟! جف حبر القلم كما جفف الجوع أجساد أطفال غزة هاشم الذين لم يبلغوا الحلم، جفّت موارد المُرضعات وبحت أصوات نسائها إذ لم يعد لمفهوم الصراخ معنى حين لا يتجاوز مداهُ القدم، وبات في كُل شِبرٍ مُهدّمٍ على أرض العِزةِ مقتلةٍ ومأتم، وسلّم العربي بضعفهِ وهوانهِ وناء المُسلم بحمْل قُرآنه واسترهب الجهاد وبه لا يتمتم، كما استسلم للصهيونية الغربي النصراني وصليبهُ على ذرى الأجساد الخاوية وأشلائها تسلّم وهو يتغنى بالحروب المُقدسةِ ويترنّم، مع ما استيقنته جوارحهم من أهوالٍ وفظائع بها العالم كله يعلم ولكنه انكفأ على وجههِ وعقبيه بلا أخلاق أو ضمير ولا ذرة ندم.
يكفُر ذو الوجه الأحمر من أقصى الغربِ الكافر بالمجاعة وقد يستهوي الغرب الأوسط أكاذيبه ويلوون أعناقهم معها وكلٌ حسب مبتغاه وأطماعه، ويُنكر ذو الشعر الأصفر كُل مشهدٍ للإجرام والفظاعة ويسلم الخيط لسامري العصر الحديث والمخيط لأنتن أهل الأرض وضاعةً فردًا وجماعة، ليستحِّلوا أكثر مما استحلوه تحت مُسمياتٍ مُستحدثةٍ وخدّاعة، ونحنُ لا زلنا في ريب من أمرنا وعراك المذاهب الطويل وبلا سالم، وخلافاتها وغي التاريخ والغلبةِ لقحطان أم لعدنان فيقول أحسننا طريقةٍ ما شاءت قُضاعة (قبلية عربية قديمًا)، فأين هي قُضاعة وأين نحنُ اليوم مما سيحدث غدًا؟! يجمع المُحتل على أعتابِ غزة قضهُ وقضيضه وهي ترزح تحت الحصار وتئن في وهدة الإبادة وجور التهجير والتجويع، ويحشد جنوده على حدودها ويحد حدهُ وحديدهُ، والبشرية التي فقدت بوصلة المناعة في أخلاقياتها وهي تشاهد كل ذلك العار لا تزال تُمني النفس بالمعاجز والخوارق والدعاء دون عملٍ أو تحريك ساكن وتُشيح بوجهِها عن التدخل أو قول الحق، ويبدو أن وقر الدنيا بآذانها يحجب عنها سماعه.
هل اعتدنا الأمر وماذا تُريد الإنسانية كلها أكثر مما حدث حتى تستفيق؟! وما يحدث في غزة لا علاقة له بالقومِّية أو الاثنية حتى يجد مسوغًا لملامسةِ كُل من له قلبٌ رقيق، أولم يُشبعنا أمراء الحروب والنار وساسة القتل والدمار إثخانًا في إزهاق الأرواح والتنكيل والخراب، أم يجب توقع المزيد من الويل والعذاب حتى يموت في العالم كل شعورٍ رفيق؟! لقد استمرأ المُحتل القاتل تيه مهيعهُ في الإجرام ولا يجد من يردعهُ وعلى شاكلته من شايعه، إذ بات الأمر جُزءًا من رتابة التكرار وأصبح الإنسان مجرد رقمٍ في الأخبار لا يستنهض المشاعر الحانية ولا يُلتفت له إلا قليلًا بين العناوين الحمراء العريضة التي تُطالعنا بها الصُحف اليومية، فينظُر المُتلقي لمحةً فيها لاقتناص الأرقام العددية التي تُشير فقط للإصابات والقتلى ولا يهتّم بالتفاصيل، ثم ينتقل سريعًا للأخبار المادية التي تُهمه جدًا والدنيوية، ويبدو أن الصهيونية عودتنا على هذه المتوالية.
إنَّ أحداث التضييق الجارية في غزة قد استحكمت حلقاتها وتُنبئ بأمرٍ قد وجب، وهو قادمٌ لا محالة كأني أراهُ قريبًا ولا نعلم ما وراء الحُجب، فربما نستعجلهُ نحن بأحكامِنا بين ما يجب وما لا يجب، ولكن حكم الله نافذٌ على خلقهِ وهو العدل المُطلق الذي لا يقبل الظُلم على عباده فكيف به وهو واقعٌ على بقيةٍ ممن وصى خير البريةِ بهم خيرا؟! ستنهض غزة من تحت الرمادِ كطائر العنقاء الذي لا يموت وتنفض عنها الأدران وتُحطم الأوثان، وسيرث أهلها الأرض وتركة الهاربين في عبورهم الثالث إلى شتاتهم الجديد بعد أن زينوها واتخذت زُخرفها، وسيعيد موسى العهد القديم سامريهم إلى الضياع مُجددًا ويحرق زينة القوم ثم ينسفهُ في اليّم، فغزة باقية وهذا ما وجب قوله؛ بل ما سيجب.