بدر بن علي الهادي
لم يعُد المشهد في سوق العمل العُماني قابلًا للتفسير بوصفه تحولات طبيعية أو تغيرات اقتصادية عابرة، فما يعيشه كثير من العُمانيين اليوم ليس مجرد منافسة وظيفية؛ بل تحول حقيقي في موازين القوى داخل القطاع الخاص؛ حيث تتراجع مساحات المواطن وتزداد سيطرة شبكات خارجية على مفاصل اقتصادية وإدارية حساسة، وهذا التَّمدد لم يعد هامشيًا أو محدودًا؛ بل أصبح ظاهرة يرى النَّاس أثرها في الوظائف وفي الترقيات وفي السياسات الداخلية لبعض الشركات الخاصة، وربما الحكومية التي تتعامل مع العُماني وكأنَّه الخيار الأقل، وليس صاحب الأرض والحق الأول!
القلق لم يأتِ من فراغ؛ فهناك فئة وافدة تمددت خلال العقدين الأخيرين في القطاع الخاص، حتى بات وجودها يتجاوز الدور الوظيفي إلى دور مُهيمِن في عدد من المؤسسات، بما يُلحق ضررًا كبيرًا بالمُواطن. والمشكلة ليست في الجنسية بحد ذاتها؛ بل في المنظومة التي سمحت لهذا التركز غير الطبيعي أن ينمو دون رقابة فاعلة أو سياسات إحلال حقيقية تحمي المواطن.
ولعلَّ ما يُثير الدهشة أنَّ هذا التمدد لم يعد يُقرأ كوجود عُمَّالي عادي؛ بل في نظرة الطرف الآخر لنا، وهي تعكس رؤية أوسع من مجرد العمل، وربما تُشير إلى طموحات لديهم تتجاوز العلاقات التقليدية، وهي ليست مجرد مزحة؛ بل إشارة تستحق التأمل خصوصًا في ظل الأرقام التي تظهر حجم النفوذ الاقتصادي والوظيفي لبعض الجاليات الأجنبية. ناهيكم عن التصريحات المستفزة التي تصدر عن بعض المسؤولين في الدول التي تتبع لها هذه الجاليات.
وقد تجدد النقاش حول هذه القضية بعد الجدل المتعلق بنسب التعمين، خصوصًا بعد توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان والهند، والحديث عن مطالب بخفض نسب التعمين ليس فقط قضية اجتماعية أو اقتصادية؛ بل مساس مباشر بسيادة الدولة وتجاوز صريح للقوانين الوطنية التي تنص بوضوح على إلزامية نسب التعمين في مختلف القطاعات.
لا توجد دولة ذات سيادة وطنية تقبل بأن يُدار الاستثمار على أراضيها دون حد أدنى من تشغيل مواطنيها، وحتى اتفاقيات التجارة الحرة لا تلغي أبدًا قوانين العمل الوطنية؛ بل تُنظِّم التجارة والاستثمار، ولا تمتد لتغيير تركيبة سوق العمل أو المساس بحقوق أبناء البلد.
هذا النوع من التدخل في شؤوننا الوطنية يكشف أن خطاب الطرف الآخر يتجاوز إطار العلاقات التجارية والوظائف، ما يستدعي وقفة صريحة من مسؤولينا وتوضيحًا يقضي على أي التباس أو تجاوز.
ما أتحدث عنه ليس معزولًا عن العالم؛ بل مرتبط بسياق عالمي لا تُخطئه عين؛ فالولايات المتحدة الأمريكية، أكبر اقتصاد في العالم، اضطرت وبأمر من الرئيس دونالد ترامب إلى تشديد قيود التأشيرات المهنية، بعد أن لاحظت مؤسسات الدولة الأمريكية أن مواطني دولة الهند تستحوذ على مقاعد مؤثرة في قطاعات التقنية، وتُهدد بتغيير موازين السوق الداخلي. وإذا كانت دولة بحجم أمريكا تراجع نفسها بهذا الشكل وتدافع عن هويتها الاقتصادية، فكيف لا تُراجع الدول الأخرى مواقفها قبل أن تجد نفسها في مأزقٍ.
في عُماننا تتجلى المشكلة في 3 نقاط واضحة؛ وهي: أولًا: اختلال مسار التوظيف والترقيات؛ حيث إن حالات كثيرة يتم فيها إحالة العُمانيين إلى التقاعد عند بلوغ السن القانونية، فيما يبقى وافدون تجاوزوا الستين في وظائفهم، ويحصلون على ترقيات أيضًا. هذا المشهد لا يُمكن تفسيره إلّا انعكاس لخللٍ في إدارة الموارد البشرية وغياب تطبيق صارم للقوانين.
ثانيًا: النفوذ الإداري؛ حيث إن عدد من الشركات الكبرى تُدار فعليًا عبر شبكات مرتبطة بجنسية واحدة، ما تسبب في احتكار فرص الترقيات، وإقصاء العُمانيين من المواقع المؤثرة، واتخاذ قرارات لا تعطي الأولوية للكوادر الوطنية.
ثالثًا: غياب الشفافية والمحاسبة والرقابة؛ حيث إن القوانين موجودة، لكن ربما لا تُطبَّق؛ حيث إنه لا يوجد ربط بين الوظائف القيادية بإحلال واضح، ولا ينطبق سن التقاعد على الجميع، ولا تُراجع السياسات القائمة عليها شركات التوظيف، وهذه السياسات معروفة عالميًا لضمان أمن البلد.
لذا يحق للعُماني التساؤل عن السياسات الوطنية التي تحميه؛ حيث إن التمدد لم يكن ليحدث بهذه القوة لو كانت هناك منظومة تحميه ورقابة جادة تتابع وشفافية أكبر ودور فاعل لمجلس الشورى الذي للأسف لم يُلبِّ طموح العُمانيين ولم نسمع رأيه في اتفاقية التجارة.
إن ترك المجال دون ضبط يعني بالضرورة أن القوى الأكبر ستملأ الفراغ وربما قد تكون فعلت، وهنا مكمن الخطر على هوية البلد.
واستمرار الوضع القائم يهدد- خلال سنوات قليلة- بوجود قطاع خاص لا يعكس المجتمع العُماني ولا يكافئ أبناءه، ولا يوفر لهم مسارًا طبيعيًا للنمو، وسيصبح المواطن العُماني ضيفًا في مؤسسات يفترض أن تُشكِّل مستقبله ومستقبل أبناءه.
نحن اليوم بحاجة حقيقية إلى مراجعة شاملة، مراجعة لا تنطلق من مشاعر الغضب؛ بل من منطق الدولة التي تحافظ على أمنها وهويتها.
عُمان أمانة ومستقبل أبنائها أمانة.. أبناؤها أينما وجدوا يبقون الركيزة الأولى التي تقوم عليها عُمان.
