خالد بن حمد الرواحي
في بداياتنا الأولى، نميل إلى الاعتقاد أن التدرّج في الحياة يشبه «التصفية الطبيعية»؛ فمن يصل إلى الأعلى لا بُد أن يكون الأذكى، والأكفأ، والأجدر. نكبر ونحن نحمل هذا التصور البسيط، ونُقنع أنفسنا بأنَّ المدارس، ثم الجامعات، ثم المناصب العليا، تعمل كغربالٍ صارم لا يمرّ منه إلا المتميزون فعلًا. غير أنَّ التجربة العملية- ومع اتساع الاحتكاك بالواقع- تُثبت شيئًا مختلفًا؛ أنَّ هذه الصورة أقرب إلى المثال النظري منها إلى الحقيقة، وأنَّ الحياة أكثر تعقيدًا مما تخيّلناه في بداياتنا.
كثيرون يكتشفون، مع اتساع خبراتهم وتراكم احتكاكهم بالواقع، حقيقةً قد تبدو صادمة في بدايتها: أن الذكاء وحده لا يضمن الوصول، كما أن محدودية الكفاءة لا تمنع الصعود دائمًا. فالألقاب، مهما بدت لامعة، لا تُغيّر جوهر الإنسان، بل قد تكشفه أكثر مما تخفيه. وكلما ارتفع الموقع، وازدادت مساحة القرار، ظهر عمق التفكير- أو ضحالته - بوضوحٍ لا يمكن إخفاؤه طويلًا، مهما أحاط صاحبه نفسه بالمظاهر.
المنصب، في حقيقته، ليس شهادة جودة ولا ختم اعتماد، بل اختبار كشف. اختبارٌ لا يرحم، لأنه يضع صاحبه في مُواجهة قرارات تمس النَّاس مباشرة، ومسؤوليات تتطلب حكمةً واتزانًا، وضغوطًا لا تنفع معها الأقنعة ولا الشعارات. عند هذا الحدّ، تتراجع الكلمات الجميلة، وتبقى الأفعال وحدها هي الشاهد. وهنا يتبيّن الفارق الجوهري بين من يتخذ القرار لأنَّه يفهمه ويُؤمن به، ومن يتخذه فقط لأنه مُطالَب به، دون إدراكٍ حقيقي لعواقبه.
الإشكالية ليست في وجود أشخاص محدودي الكفاءة في مواقع متقدمة؛ فذلك واقع عرفته المؤسسات عبر التاريخ، وتعايشت معه بدرجات متفاوتة. الإشكالية الأعمق تكمن في كيف يصل بعضهم، وفي آليات الاختيار التي تُقدَّم أحيانًا على حساب الجدارة. فهناك من لا يصعد بسُلّم الكفاءة والاستحقاق، بل يعبر عبر جسور العلاقات والمصالح المتبادلة. وهناك من يُدفَع إلى الواجهة لا لقوته أو تميّزه، بل لكونه الأسهل توجيهًا، والأقل مُقاومةً للتأثير، فيتحول الموقع من مساحة مسؤولية إلى أداة تُدار.
وهنا يظهر أخطر نمط إداري يمكن أن تمرّ به أي مؤسسة: مسؤولٌ لا يضيف، بل يُردّد. لا يسأل لأنه لا يُريد الإحراج، ولا يناقش لأنه ينتظر الإشارة. لا يبني رؤية، بل يكتفي بتدوير ما يُملى عليه، وكأنَّ وجوده مرتبط بالامتثال أكثر من الوعي. وجود هذا النمط لا يُربك المؤسسة فحسب، بل يُفرغ المواقع من معناها الحقيقي، ويحوّل القرار من مسؤولية أخلاقية ومهنية إلى إجراء شكلي يُنفَّذ بلا روح.
في المُقابل، نجد أنَّ أكثر الناس أثرًا لم يحملوا أعلى الألقاب، ومع ذلك تركوا بصمة واضحة في مواقعهم، لأنهم تعاملوا مع المسؤولية بوصفها أمانة لا امتيازًا. أصلحوا ما استطاعوا، وواجهوا حين كان الصمت أسهل، وتحملوا كلفة القرار، وتجاوزوا «المألوف» عندما كان المألوف يضر بالمصلحة العامة. فالقيمة الحقيقية للإنسان لا تُقاس بما كُتب على بابه الوظيفي، بل بما تغيَّر بسببه داخل المكان الذي مرَّ به، وبما تركه من أثرٍ يستمر حتى بعد رحيله.
لهذا، فإن أخطر خطأ يمكن أن تقع فيه المؤسسات هو الخلط بين الموقع والقيمة. فالموقع قد يُمنَح، وقد يُرتَّب، وقد تُسهِّله المصادفات أو تفرضه التوازنات، أمّا القيمة فمسارٌ يُبنى ولا يُمنَح، ويُكتسَب ولا يُوهَب. قد يسبق الموقعُ صاحبه أحيانًا، فيضعه في مكان لم ينضج له بعد، لكن البصمة لا تسبق صاحبها أبدًا؛ لأنها لا تظهر إلا حين يكون الإنسان جديرًا بها فعلًا.
ربما آن الأوان أن نُراجع معيارنا بهدوء، بعيدًا عن بريق المواقع وضجيج الألقاب: هل نُقيِّم النَّاس بما وصلوا إليه… أم بما تركوه خلفهم؟ فالتَّاريخ، على امتداده، لا يحتفظ طويلًا بالأسماء ولا بالمناصب، لكنه لا ينسى أثر الإنسان في المكان الذي كان فيه، ولا ما أحدثه من فرقٍ حين امتلك القرار.
