وداعًا الفنان الإنسان زياد الرحباني

د. أحمد بن علي العمري

رحل عن عالمنا وغيب الموت الفنان الظاهرة والملحن والكاتب المسرحي، فنان الوطن، والفنان الرمز، والفنان الإنسان، الأستاذ زياد الرحباني، يوم السبت 26 يوليو 2025م، عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد صراع مع تليّف الكبد. وقد نعاه الرئيس اللبناني جوزيف عون، ووصفه بأنه "ضمير حي وصوت متمرد على الظلم". وهو الابن البكر للموسيقار عاصي الرحباني والمطربة الأسطورية فيروز (نهاد حداد).

ولد في الأول من يناير عام 1956م، ونشأ في بيئة فنية مكثفة، وقد تأثر بعمل والده وعمه منصور الرحباني إلى حد كبير، ومع ذلك تعلّم الموسيقى بشكل ذاتي مع تأثره بموسيقى الجاز.

تزوج من دلال كرم، لكن الزواج انتهى بالطلاق، ثم لاحقًا ارتبط بالممثلة كارمن لبّس لمدة خمسة عشر عامًا.

لقد بدأ التلحين في سن مبكرة جدًا، وكانت أول ألحانه أغنية سألوني الناس التي غنّتها والدته فيروز عام 1973م، والتي لا تزال تردد إلى يومنا هذا، وذلك عندما كان عمره سبعة عشر عامًا أثناء مرض والده، وقد حققت الأغنية رواجًا كبيرًا وأظهرت موهبته المتميزة.

كما إنه اشتهر بأسلوبه الساخر والنقدي في المسرح، فقد ابتعد عن النمط الرومانسي البحت لعائلة الرحباني، واتجه بكل قوة نحو الواقعية السياسية، معالجًا قضايا الحرب الأهلية والفساد والطائفية في أعمال عديدة مثل مسرحية "سهرية"، ومسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟ 1978م"، ومسرحية "فيلم أمريكي طويل 1980م"، ومسرحية "بخصوص الكرامة والشعب العنيد 1993م".

لحن العديد من الأغاني لوالدته الأسطورة فيروز مثل: البوسطة، وعودك رنان، وإيه في أمل، وكذلك أصدر ألبومات موسيقية مثل: أنا مش كافر ومونودوز، التي مزجت ولأول مرة بين موسيقى الجاز والموسيقى الشرقية.

ترك إرثًا فنيًا وسياسيًا كبيرًا، فقد كان صوتًا للطبقات المهمّشة، وناقدًا لاذعًا للسلطة عبر مسرحه وموسيقاه.

من أبرز مسرحياته: سهرية، ونزل السرور، وشيء فاشل، أما أبرز أغانيه مع والدته: سألوني الناس، البوسطة، حبيتك تنسيت النوم.

ومن ألبوماته: هدوء نسبي، وبما إنو، وإلى عاصي.

إن زياد الرحباني يُعد أحد أهم المجدّدين في الموسيقى والمسرح، وقد جمع بين العمق الفني والالتزام السياسي، الأمر الذي جعله أيقونة لا تُنسى.

عندما أقرأ في سيرة الراحل بتمعّن، أجد أمورًا غريبة وغير معتادة؛ إذ لم تجرِ العادة في حياة من هم مثله، ممن نشأوا نشأة مرفهة بين عملاقين عظيمين، أن يرفضوا العيش مدللين لا يُرد لهم طلب، ويخوضوا الحياة بعرضها وطولها كما يشاؤون، لكن زياد أبى إلا أن يشق طريقه بنفسه، ويصنع مجده بذاته، مهما كانت العقبات والتحديات.

لقد قال سابقًا: اكتبوا على الأوراق، على أوراق الدفاتر، على أوراق الأشجار الصفر، اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة، على أصغر الأحجار، احفروا في جذوع الأشجار، على أبواب البيوت المتهدمة، اكتبوا كل ما يخطر ببالكم، فإننا راحلون... اكتبوا".

لقد أنجز أوبريتًا كبيرًا بعد استشهاد حسن نصر الله -وهو مسيحي- حيث قال: العيش من دون السيد جحيم مدسوس فيه العسل.. أنا إذا بموت رح موت فقع من الفقد، مش من المرض.

وفي الأوبريت المهداة إلى الشهيد السيد بعد حرب تموز، أنشد: "هذا حفيد محمد، هذا نشيد علي، هذا بشائر عيسى، هذا نصر الله".

فلم تكن الوطنية عنده محصورة بحدود جغرافية أو دينية، بل تجاوز بها كل الفوارق ليصل إلى القيمة الأشمل: الإنسانية.

فإذا كان كمسيحي يمدح مسلمًا في وطنيته، وينعيه رئيس مسيحي، ألا تُعد هذه قيَمًا إنسانية سامية تُرفع لها القبّعات؟ فكيف بنا نتحارب على مذاهب في ذات الدين الواحد؟

إذا كان الدين يفرّقنا -وهو ما لا نرجوه ونعوذ بالله منه- فليجمعنا الوطن، ذاك الوطن الذي آمن به زياد ونصره، ومات على عهده، وناضل من أجله.

هؤلاء هم الرجال الخالدون.

تحية إجلال وتقدير واحترام للمفارق العملاق، الذي رحل عنّا جسدًا، وسيبقى بيننا روحًا ما بقي الوطن بأنشودته، وما غردت البلابل، وما زقزقت العصافير.

فالأوطان أبعاد لا تحدها حدود، ولا تتحكم فيها قيود، وتحية لكل وطني مُحبّ لبلاده مهما كان وطنه، ومهما كانت ديانته.

الأكثر قراءة