د. إبراهيم بن سالم السيابي
يُروى أن رجلًا من رجال البادية كان يعيش بين قومه حياةً مستقرة، عرفه الناس بشهامته وسعيه، وكان له حضوره ومكانته.. وبمرور الوقت، تكاثرت عليه المسؤوليات، وتنوعت أعماله ومشاغله، حتى غلبته الحياة على أن يكون حاضرًا فيها كما اعتاد.
لم يكن غيابه فجأة؛ بل تسلل بهدوء من البيوت التي يرتادها، من المجالس، وقلّ ظهوره في المناسبات، وتضاءلت لقاءاته بالناس الذين كانوا يومًا جزءًا من ذاكرته اليومية.، لم يكن قاسيًا، ولا متعالٍ، فقط انشغل... وطال به الانشغال.
كَبُرَ الرجل، وبدأ يشعر أن الوقت لم يعد ملكه، وفي لحظة صفاء، وقد دَنَا منه الأجل، وقاربت شمسه على الرحيل، جمع بعضًا من أهله وقال: "ليتني عشت نصف هذا العمر، لا أجمع المال ولا أعد المشاغل؛ بل أعيش بين الناس، أشاركهم أيامهم، وأكون بينهم في أفراحهم وأتراحهم، كنت أظن أنني لا أحتاج إلا الوقت، ثم اكتشفت متأخرًا أنني كنت أحتاج القرب، والناس، والحياة كما هي، لا كما رسمتها وحدي".
ما قاله الرجل لم يكن ندمًا فقط؛ بل كان اعترافًا صادقًا بأن أجمل ما في الحياة، لا يصنعه النجاح الفردي، ولا المال، ولا المكانة؛ بل تصنعه العِشرة، والصُحبة، واللمَّة، والمشاركة.
اليوم.. نرى صورًا مُتكرِّرة لذلك الرجل، ولكن بملابس مختلفة، وأماكن عصرية، وأسماء جديدة، فكم من الناس نعرفهم يعيشون في ذات المدينه، أو الولاية، وربما في نفس الحارة، لكننا لا نراهم إلا نادرًا؟ لا يشاركون في المناسبات، لا يظهرون في المجالس، لا يردّون على الدعوات، ولا يبادرون بالسؤال أو الزيارة، البعض قد تَغيّب اضطرارًا، والبعض انسحب طواعية، والبعض انشغل طويلًا حتى أصبح البعد عادة، والاعتذار أسلوب حياة.
الغربة لم تعد مرتبطة بالسفر والبُعد الجغرافي فقط؛ بل أصبحت أحيانًا حالة نفسية يعيشها الإنسان وهو بين أهله وناسه، غربة خفيفة الظل، لكنها ثقيلة الأثر، تبدأ بتبرير "الانشغال"، وتنتهي بأن يصبح الإنسان غريبًا في وطنه، غريبًا في بيته، غريبًا في قلب أقرب الناس إليه.
لكن هذه ليست دعوة للَّوم أو العتاب؛ بل تذكرة رقيقة بأن في الحياة متّسعًا دائمًا للرجوع، فإن القرب لا يحتاج إلى عمل كبير؛ بل إلى خطوة بسيطة: زيارة خفيفة، اتصال صادق، رسالة تبدأ بعبارة وببساطة "كيف حالك؟ أو ما هي اخبارك؟ أو هل أنت بخير؟"، وفجأة يعود الدفء، وتعود الروح إلى أمكنة كادت تنساها.
الحياة حين نعيشها وحدنا تصبح صامتة مهما ازدحمت، أما حين نشارك، فإننا نمنحها لونًا ومعنى؛ فاللَّمة رزق لا يُقاس، والصحبة الجميلة تملأ القلب بما لا تقدر عليه الأيام وحدها، فأن تُذكر في مجلس بخيرٍ، أن تُنتظر في مناسبة، أن يُفرح بك حين تحضر.. تلك كلها نعمٌ خفية لا يدركها من اعتاد الغياب.
الناس لا يحتاجون منا الكثير، يكفيهم أن نكون معهم، لا من أجل المجاملة؛ بل من أجل الإنسان الذي بداخل كل واحدٍ منا؛ لأننا حين نشارك الآخرين في أفراحهم، فإننا نضاعف الفرح في قلوبنا، وحين نكون معهم في أحزانهم، فإننا نخفف عنهم ونخفف عن أنفسنا في الوقت ذاته.
في الختام.. لكل من أبعدته الأيام، وغيّبته المشاغل، وتوارى خلف الأعذار، نقول: عُدْ، ولو بخطوة بسيطة. عُدْ لتعرف أنك ما زلت تُحَب، وما زالت في مجالسنا، وما يزال في بيوتنا مكان لك، وفي القلوب مساحة محفوظة باسمك، عد لتكتشف أن أجمل ما في الحياة ليس ما نملكه؛ بل من نعيش معهم بعض من لحظاتها او بعض من تفاصيلها.
الغربة الحقيقية ليست بُعد المسافة؛ بل في أن تكون بعيدًا عن الوجوه التي كانت يومًا من الأيام وجهًا ليومك!