فيصل السعدي
بينما أخطو خطواتي وأصعد السلم تلو الآخر في سور الصين العظيم، أشعرُ وكأنني أعود إلى نقطة البداية، التفتُ مرارًا لأتأكد من مدى صعودي، وكأنني أبحث عن إجابة لسؤال يتردد في داخلي: كيف استطاعوا؟ كيف لجهد البشر أن يُشيِّد سورًا يمتد لأكثر من 21 ألف كيلومتر، من مواد بسيطة لا تتجاوز الطوب والخشب؟! كيف تمكنت عزيمة الصينيين من أن تصنع أسطورة خالدة، أصبحت رمزًا للصمود والقوة في وجه الزمن؟
ظل شعور غريب يراودني أثناء مسيري، وكأن خيالي أوصلني إلى رؤية سور يمتد من بكين إلى مسقط؛ بل أطول من ذلك بأربع مرات. هذا السور الذي لم يكن مجرد بناء عملاق؛ بل كان درعًا حصينًا حمى الممالك والأسر الحاكمة في الصين من غزوات الشمال على مرِّ القرون. بدأ بناؤه منذ القرن السابع قبل الميلاد، واستمر عبر العصور، ليُصبح أطول وأقوى نظام دفاعي شيده الإنسان في التاريخ.
بناءٌ عجزت ظروف الأزمان أن تُثني من شموخه، ليُبرهن مدى إصرار وقوة مئات آلاف من الجنود والبُناة الذين لم يدركوا أنهم صنعوا رمزًا وفخرًا للصين. وما أن أضع قدمي على حجارة السور، حتى أشعر بأنني أعود إلى حقبة بعيدة من الزمن. أُلامسُ الطوب، وأتأمل النقوش، وأتجول بين أبراج المُراقبة التي كانت يومًا مراكز لحراسة الحدود. وكأنني أسمع أصوات الحروب وصيحات الجنود الذين دافعوا بشجاعة عن وطنهم. هذه المشاهد ليست مجرد خيال؛ بل هي ما جسدته العديد من الأساطير والأفلام التي تحكي عن هذا السور الأعظم.
الصينيون يقولون إن جزء "جيورانغ" هو أجمل أجزاء السور في بكين؛ حيث يمتاز بجمال طبيعته الساحرة؛ إذ إن هناك ثماني بوابات تتيح الوصول إلى السور في بكين، ما يعكس امتداد السور كأجزاء متفرقة، وليس كجدار متصل.
تحيط بالسور العظيم مياه وافرة ومساحات خضراء شاسعة، تمتد إلى أبعد ما تصله العين، ما يجعل المشهد يبدو كلوحة فنية فريدة. ولعل هذا الجمال الطبيعي كان أحد الأسباب المهمة لبناء السور؛ حيث صُمم لحماية الأراضي الزراعية الخصبة من الغزاة.
عند النظر إلى التفاصيل الدقيقة للسور، يمكنك أن تُدرك الحكمة وراء تصميمه. الفتحات الصغيرة والنوافذ التي تنتشر على طول الجدار لم تكن مجرد إضافات عشوائية؛ بل أدّت دورًا حيويًا في مواجهة الأعداء. تعرجات الجدار، التي تبدو وكأنها تناغم بين البناء والطبيعة، أظهرت عبقرية الصينيين في استغلال التضاريس الصعبة لصالحهم.
في زيارتي الأخيرة للسور، كنت بصحبة حقيبة مليئة بالمأكولات الخفيفة، ولكن هذه المرة، كانت زيارتي تحمل طابعًا مختلفًا؛ فقد تزامنت مع أيام شهر رمضان المبارك. صعدتُ إلى أعلى قمة سُمح لي وقت الزيارة بالوصول إليها، متأملًا عظمة ما صنعه الإنسان بإرادة لا تعرف الكلل. قررتُ أن أتحلى بالصبر، فلا أكون أقل عزيمة من أولئك البُناة الذين شيدوا هذا السور تحت ظروف قاسية، لتحيا ذكراهم في كل حجر وطوبة.
سور الصين العظيم ليس مجرد بناء حجري؛ بل هو أسطورة حيَّة تروي قصة الإصرار والعزيمة. إنه رمز للصمود الذي تغلَّب على الزمن، وظل شامخًا في وجه كل التحديات. ولا ريب أنَّ زيارة هذا الصرح العظيم تتجاوز تجربة سياحية؛ لأنها رحلة معرفية وتأملية في أعماق التاريخ، ودرس في قوة الإنسان عندما يجتمع الإصرار مع الإبداع.