علي بن مسعود المعشني
ظاهريًا تقود فصائل المقاومة اليوم في الجغرافيات الأربعة المعروفة، غزة، ولبنان، واليمن، والعراق، حربًا تحريرية وجودية ضد الغرب الاستعماري المتمثل في القاعدة المتقدمة ومخلب القط الكيان الصهيوني، وتقود هذه الفصائل هذه الحرب بالنيابة عن النظام الرسمي العربي، وبالنيابة عن دولة "الاستقلال" العربية والتي جلبت التحرير الناقص والاستقلال الناقص من مُستعمِر الأمس، واستقبلت بلا وعي المُستعمِر الجديد المتمثل في التبعية العمياء للغرب.
"التبعية" أنتجت طيفاً واسعاً في دولة الاستقلال العربية منبهرًا بالغرب، ومعتقدًا أنه الملاذ الأخير للبشرية، والنموذج والقدوة الصالحة لها، والوصفة السحرية للتقدم والتطور. فقد نجحت التبعية كأداة سيطرة ناعمة في التغلغل بداخل عقل عربي دولة "الاستقلال"، وإعادة إنتاجه كحاضن للفكر الغربي، ومتجاسرًا على موروثه وثوابته بوعي أحيانًا، وبلا وعي أحيانًا كثيرة.
استمراء التبعية وثقافتها، وعدم فهمها وإنكارها، واعتبارها في لا وعي عرب الاستقلال، وسيلة للتعايش والتسامح وطي صفحات الاحتلالات الغربية المسلحة، خلق بالنتيجة طبقات مُخمَلية في فكرها في أوساط النخب العربية، الفكرية منها والسياسية ورجال الأعمال، تمارس "السادية" ضد نفسها، وضد ثوابتها وقيمها وتُقدِّم العلف على الشرف، اعتقادًا منها بأنَّ ذلك مدعاة للسكينة والاستقرار للدولة وبالنتيجة جلب التطور والنمو لها.
تسلَّل إلى عقل هؤلاء النخب واستقر بداخله، أكذوبة نظرية المؤامرة، وسوقوا بأن لا وجود لنظرية المؤامرة من قبل الغرب، وأن المعضلة من عرب زماننا أنفسهم وكامنة بداخلهم. وحين أنكر هؤلاء المؤامرة لم يدركوا أن إنكارها هو جزء أصيل وركن مُهم لتمريرها وتغولها لاحقًا. وتسبب فكر هؤلاء النخب الناتج عن قناعاتهم السطحية الهشة، وانبهارهم المُعيب بالغرب، وبفعل سطوتهم وسيطرتهم على مفاتيح الوعي والقرار بمجتمعاتهم، في توليد حالة الهشاشة التي أنتجت التفاهة التي نعيش تفاصيلها اليوم؛ إذ أفقد هؤلاء الأمة مناعتها المتمثلة في قيمها وموروثها، وأنتجوا أوطانًا لا تُشبهنا في شيء.
فصائل المقاومة اليوم تنطلق عقيدتها من خلال الثوابت والقيم التي وأدها جيل دولة الاستقلال، وغيَّبها وتجاسر عليها، لهذا ظهرت ثقافة المقاومة كالبدعة السيئة في زمن العلف والارتخاء الفكري.
من وجهة نظر طبقات العلف والتي لم تستوعب بعد ولم تُدرِك خطورة التبعية وصراع الوجود مع الغرب، تبدو فصائل المقاومة وتُصوَّر على أنها ميليشات خارجة على الدولة والقانون، وأنها فصائل تتاجر بمكتسبات الأوطان وأمنه واستقراره، وأنها فصائل تُحيي ثقافات غائبة ولم تعد صالحة اليوم مثل الجهاد، وتواجه بإمكانياتها البسيطة والمحدودة قوى لا طاقة لنا بها؛ بل قوى تُعد في خانة القضاء والقدر الذي لا طاقة لا يمكن مواجهته وهزيمته. وأخيرًا وليس آخرًا، تعمل تلك الفصائل على اعتماد هذا "الضجيج" ليس بقصد تحرير الأرض فحسب؛ بل لتحقيق مكاسب لها بداخل أوطانها لاحقًا.
من يُدرك هذه التحولات التاريخية في العقل العربي المعاصر، ومنذ عهود وأزمنة "الاستقلال"، يُدرك اليوم أسباب تكتُّل النظام الرسمي ضد المقاومة وثقافتها إلى درجة الاصطفاف مع العدو، ويُدرك كذلك، أسباب غياب الصورة الدموية للحروب وحضور الصورة "الوردية" في أذهان الكثير اليوم، هذه الصورة التي جعلت الكثير يتوقف عند الصور السطحية للحرب من دماء ودمار، ولا يتنبأ باليوم الثاني بعدها. ثقافة الهشاشة التي أنتجت التفاهة لاحقًا، هي ما عطلت في عقول الكثير نعمةَ إعمال العقل، ونعم التأمل والتدبر والقياس والمنطق.
فصائل المقاومة من الأساس يُمكنها تحقيق مآربها في الداخل دون ضجيج أو استعراض، ودون خوض حروب أو إسالة دماء، لو كان هذا مشروعها وهدفها؛ فالعدو يعلم خطورتها عليه، ويعلم قوة تأثيرها وحضورها مقابل الطبقات المخملية التي يحبها ولكنه لا يحترمها لأنها لا تُشبه أوطانها في شيء.
العدو قدَّم- وما يزال- لفصائل المقاومة جميعها وبلا استثناء عروضًا تُشبه البرزخ لتمكينها من مكاسب عظيمة مقابل الكف عن عدائها له، والسبب الرئيس هو قوة العقيدة القتالية لتلك الفصائل، وخوفه من تفشي ثقافة المقاومة والشرف، وتحلُّل ثقافة العلف وزوال أعراض التبعية والانبهار وثقافتهما.
قبل اللقاء.. أمريكا تُريد، والله فعَّال لما يُريد.
وبالشكر تدوم النعم.