قصة الوادي الصغير (11)

 

 حمد الناصري

 أخذ كبير غُرباء ذوي الوجوه الحمراء يشتغل على التواصل مع الشرقيين ذو العيون الزرقاء ، ويطرح عليهم فكرة تقاسم نفوذ الأعراب في البحر العميق وفي الرمال والكثبان، فاجتمع خمسة من الشرق وخمسة من الغرب على مَتن سفينة كبيرة ،وبدأوا بخطة التقسيم ، خريطة كبيرة ، وضع عليها كبير الغُرباء من ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة ، خطاً كأنّ به عَرجًا ، من هُنا تكون لنا ، الوادي الصغير بحره وخلجانه غرباً وشمالاً ، والبرّ من الرمال والكثبان والحارات العشر وقرية البحر وقرية الأعلى والتراث والبلدة العتيقة وقرية الجبل وقرية الأعلى .. ورفع يدهُ ثم بَدأ برسم خط طويل يخترق مُنتصف البحر العميق شرقاً وبوابة بحر الجنوب وما بعدها وبلاد ذوي السِحنة الرصاصية وذوي الأنوف المُقوسة والبيض فارعي الطول إلى البحر الشرقي لبلاد ذوي الأنوف الفطحاء، وهذا للغُرباء الشرقيين ذوي العيون الزرقاء.. وضع نقطة كبيرة، ثم مدّ القلم لينصف الخريطة نصفين ، وقال هذا عالم شرقي وذاك عالم غربي.؛

قال كبير الشرقيين ، لا بُد من وضع خارطة جديدة ، وتُودع نسخة منها في المكتبة الشرقية وأخرى في المكتبة الغربية ولا يطّلع عليها أحد بتاتاً لـ مائة سنة .

قال كبير الغُرباء الغربيين لجماعته المُكلفين لوضع حَد لنفوذ الأعراب وتقسيم أماكن النفوذ إلى شرقية وغربية ، نتفق على مائة سنة ، حتى لا يَمتد حِقد الشرقيين لأكثر من ذلك ، وحتى ذلك اليوم ، بعد مائة سنة ستظهر ملامح جديدة للتقسيم وستتغير المراحل والظروف فلكل مرحلة ظروفها ومُلابسات تحوّلاتها.. جيّد أنهم وضعوا النقطة.

قال كبير رجال الاعراب ويُعرف بأبو حدبة

ـ اسمعوا مني أيها القوم ، الغُرباء جميعهم أشرار لا خير فيهم، غربيهم وشرقيهم ،وكلهم أحدثوا ضرراً كبيراً واعتدوا على مُتحصلات الوادي الصغير عبر الزمان ، وفي أحد الكتب التاريخية قرأت ،  أنّ ذوي الأنوف المُقوسة كانوا صَمام أمان لذوي السِحنة الرصاصية ، الذين يَحملون أوزار التوسّع غير الظاهر .. وفي ذلك الكتاب القديم ، يَذكر أنّ لرجالنا ـ الأعراب ـ غاية كُبرى للاستقرار والحياة ، فالأعراب ظهروا في البحر والبر إلى أنْ وصلوا إلى البحر الشرقي وبلاد ذوي الأنوف الفطحاء قديماً ، وشهد لهم التاريخ البحري ، حتى صار موروثاً  يعُرف بهم. السّلام والوئام.

وتلك حقيقة لا نختلف معها أبداً ، فأهلنا ـ أهل الوادي الصغير ـ على وجه الخصوص ، هم أهل سلام وكان شغفهم سلام الناس وأمان البشر ، ذلك المفهوم وصل بهم إلى حضارة إنسانية خالية من العِوج.. كما اشتهروا بالتجارة والملاحة البحرية قديماً حتى عُرفت البحار بأسمائهم.

ولكنّ حسَد الغربيين لن يتوقف عند هذا الحَد منذ القِدَم ، وإلى يومنا هذا ، لكن القليل منكم يَجهلون خسّتهم ويَحسبون أنهم بمكرهم، يَصنعون أملاً للحياة ويُحسنون صُنعاً للسلام بين الناس ، بل كانوا منذ زمن قديم أمّة ماكرة وخبيثة ، لم يفعلوا خيراً حتى بين بعضهم غير التقاتل ، فهم قسّموا عالمنا إلى عالم الوسط ، عالم ثالث ليس له مكاناً بين عالم شرقي أو عالم غربي ، ذلك هو الكِبْر والتعالي وغرور القوة وهمجية السّيرة الوحشية بأفعال الشر والدمار.

أيها الناس ، إخوتي ، اسمعوا ما أقول وأنا أكبركم سِنًّا وقد بلغت  من العُمر عِتياً وقد لا ألقاكم بعد هذه اللحظات ، إني أسمعكم قولي وأعظكم بفهمي ، وأدفع إليكم مَبلغ عقلي ، وصواب فكري ..كونوا سِيرة شامخة ورجالا يعتز بكم من بَعدكم ، وليذهب الغربيون والشرقيون وذوو الأنوف الفطحاء معهم وفارعو الطول وذوو العيون السوداء ، وليكنْ العَهد أقرب بذي الجوار البحري واتخذوا من ذوي الوجوه الرصاصية جوارا مُطمئناً ، واجعلوا من ذوي الأنوف المُقوسة فزعة فعّالة تهدف إلى الترابط والتضامن إنهم  رجال ذوو عِزة وشهامة ونُصْرة منذ القِدَم.

قال "محشوم" وكأنه يحتمي بشديد الصرعة :

ـ الغربيون سبب هذا الشرّ ، فمنذ يومين مُتتالين ونحن لم نتخذ موقفاً ، بل زادنا الجمع تفرقاً وطعنَ أحدنا الآخر .؛

فالغربيون نواياهم غامضة لم يُخفوها سِراَ وجهراً .. ويقولون ، نحن جِئْنا لمنافع لنا لا لإرضائكم ، تقبلون أو لا تقبلون ، نحن معكم إنْ رضيتم بما نقول ، وضِدّكم إنْ فشلتم وانقسمتم ، قوتنا في بحركم ، سنردكم على أعقابكم سندمركم وندكّ بيوتكم.؟

وفي اجتماعهم مع الشرقيين بعد خمسين سنة من خطة التنفيذ وتقسيم مياه الأعراب العميقة ورمالهم وكثبانهم وقُراهم، وكأنهم يُرهبوننا .." قوتنا في بحركم ، سنردكم على أعقابكم سندمركم وندكّ بيوتكم.؟". لو كان فيكم رجل رشيد ، فليرد عليهم بنفس القوة والرهبنة " لا نكترث بموتنا ، فموتكم أقبل إلينا ، سيفتك بكم صغيرنا قبل كبيرنا ، أعراباً باعوا أنفسهم لحياة الاطمئنان ، والإيمان عِزتنا وثباتنا.؛

قال أحدهم سراً  لـ محشوم  وكان بجانبه ، كأنه يُشعل الفِتنة ويزيدها لهيباً :

ـ أشهد بأنّ "ثابت" مُسرفٌ كذّاب لا خير فيه البتّة كحال الغربيين ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة، لن نقبل به حكيماً ولا نفتخر به ، لأنْ يكون رشيداً وسيّداً.

قال ثالثٌ وكان إلى جانبهما وأخذ يهز رأسه ويَمُد عنقه  ويُحرك سبّابته بالنفي :

ـ حدسي لن يُخَيّبني .. وفراستي لن تَخذلني.! فقد اكتشفت لكم سِراً من يومئذ وقلتُ لكم ، أنّ ثابِتًا ناقم لا خير فيه.. مُجرم غدّار .. انتبهوا واحذروا .. سيفرقكم ويُفَتّت وحدتكم.. أسراركم بيدكم اليوم وغداً في أيدي أعدائكم ثّم تكون أعناقكم لهم خاضعة وبأيديهم .؛ أتدرون من هو سبب اختفاء " فلوع ومن بَعده فالع" ذاك زعيمكم ، الكذّاب الأشِر ولا أستبعد مُطلقاً أنْ يكون  عميلاً سِرّيًا لكل من  الشرقيين والغربيين ولم يَخُني حدسي إنْ لم يكن عميلاً ثالثاً لذوي الأنوف الفطحاء أو حتى للبيض فارعي الطول وذوي العيون السُود .. انظروا كيف يتقلّب بأفكاره ، فمرّة يقول بأن الشرقيين خير من الغربيين ومرة يَنقلب عليهم ويقول أحذركم من الشرقيين إنهم كذا وكذا ، ومرّة ينقلب على ذوي الأنوف الفطحاء ويقول ، أنا أخشى منهم ، وأولئك الأقوام ذوو مُعتقد غير مأمون .؛

وللأمانة أخبركم للمرة الثالثة ، أنّ ثابتًا لا يستأهل بأنْ يكون زعيماً بل هو مُخْبر شامل لكل الغُرباء ويكذب على هذا ويَدس السُم في ذاك وعندنا خائن للوطن.؛ ألا ترون تقلّباته ؛ إنها غير مُطمئنة ، فمرة يُمجّد الشرق، ومرة يرفع من ذوي الأنوف الفطحاء ويصف بحرهم بالساحر الأزرق ، ومرة يقول ، أنّ الغربيين لهم تاريخ يجتمع في تاريخنا الأزلي ، فمعتقدهم بالخالق الواحد للكون.؛ هذا أمر غير مطمئن لنا .؛ أقول لكم .. إنه إمّعة لا خير فيه.؛ اقتلوه خير لكم.؛

 

  قال الرجل الجالس إلى جانب "مَحشوم" بخوف شديد  وتوجّس :

 

ـ .. اسكت.. لا تُخبر شديد الصرعة فقد يَفعلها.. ويقتلهُ.؛ لو سمعها لصدّقها، ونفّذها في الحال.؛

      انقسم رجال الوادي ومُجتمعات الرمال والكثبان والحارات والأحياء وقرية البحر وقرية التراث والبلدة العتيقة ، وفشلوا في تحديد الشخصية القيادية التي يُوكَل إليها مُهمة قيادة الوادي الصغير واختلفوا في تغيير الاسم ورفعها إلى مُستوى إمارة ، وتكون كل القُرى والأحياء وسيح المالح والحارات العَشر وقرية البحر وقرية التراث والبلدة العتيقة وقرية الجبل الأعلى وأحياء الرمال والكثبان خاضعة لقيادة واحدة فقط.. قيادة مُوحدة غير مَبثوثة دفاعياً ولا مُفَرّقة سياسيًا.. كما تفرقوا في شأن "ثابت" كزعيم.  وتباينت الآراء في تصنيف أيّ الغُرباء أعداء للوادي ، لكنهم أبدوا اتفاقاً لمقاومة ذوي الوجوه الحُمر المكتنزة ، وإخراجهم من سواحل الأعراب وأراضيهم.

وازدادت الانقسامات بينهم ووصَلت حدّ الهشاشة والعجز ، لكنّ أكثرهم أجمعوا على عدم تمكين "ثابت" من قيادة الوادي الصغير واتفقوا على رفض تعديل اسم الوادي إلى مُسمى إمارة .. كما تخلّى جماعة الحارات العشر عن زعامة "ثابت" على سيح المالح المُتحد.

ولكل تلك الأسباب حالَ تفرّق رجال الوادي الصغير من تمَكّنهم من تحقيق الأهداف، وباتتْ أحوالهم كظلّ مهما جرَيْت، يَجري أمامك ومهما سَعيت مُولّياً ظهرك سَعى ليلحق بك ..؛

سارَ مُحسن ابن الحارة التاسعة وحكيم رجالها، وقد عُرف بأنه يُحب جَمْع الناس على الكلمة الطيبة، ولا يَتخذ من العجلة قراراً  ، ولا يَحكم بدون تفاصيل واشتهر في الوادي الصغير والحارات العَشر بـ محسن الشيخ ، فقام يخطب في قومه :

ـ لا بُد للزعيم القائد أنْ يكون على بصيرة وأنْ يعرف بواطن الأمور ويتفهم الآراء الكفيلة بنبذ الضغينة والسّعي إلى الفضيلة.. وهذا اليوم العاشر ولم يستفد أحد مِمّا اجتمعنا عليه ، بل تفرّقنا وتشتتت أواصرنا وازداد البُغض والكراهية بيننا ، والسبب واضح ، الكذب والخداع والخيانة في زعامة الناس وغياب الأمانة في المسؤولية.

    جموع من رجال الوادي والحارات تُغادر المكان، تسير خلف مُحسن الحكيم كظله تماماً، والتفّ الرجال حوله.. وأخذ مُحسن الشيخ يتأمّل المكان وأطلق العَنان لِمُخَيّلته، ويتصَوّر الأمكنة وهو يستدعي صُورها الذهنية وأشياء أخرى.. تمتم، ولم يجهر بصوته قط.. تفَتّتت وحدة الأعراب في القريتين الأعلى والجبل وتراختْ عزيمة قرية التراث والبلدة العتيقة وتداعت لها قرية البحر ، وانحسرتْ قوة الرمال والكثبان ولم تجتمع أمة الأعراب على قوة تحميها، وازدادت هشاشة الإجماع ، وعجز  ذلك الزعيم " ثابت" عن إقناعهم ببقائه زعيماً على المُتحد ، ثُمّ توعدهم بقطع العَهد بهم.. فقطّع الأمانة المُوكلة إليه.

 

يتبع 12

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة