الذكاء الاصطناعي.. نشاط إنساني مُتعدد الأبعاد (1- 3)

 

عبيدلي العبيدلي **

 

بخلاف الكثير من الأنشطة الإنسانية الأخرى، برز الذكاء الاصطناعي كقوة تحويلية تعيد تشكيل الديناميات العالمية، وتؤثر على الصناعات، والمجتمعات، والحكومات؛ بل وحتى البحث العلمي على حد سواء. فعلى العكس من التقنيات السابقة التي تقتصر على التأثير الإقليمي أو القطاعات المتخصصة، فإنَّ الذكاء الاصطناعي مترابط بشكل عميق عبر مجالات متعددة.

تحاول هذه المقالة تشخيص الطابع متعدد الأبعاد الذي يتمتع به الذكاء الاصطناعي من خلال تحليل انتشاره العالمي، وعن طريق ضرب أمثلة ملموسة، ورؤى إحصائية واتجاهات تشكل في مجموعها تأكيد البعد الكوني المتعدد الأوجه الذي ينعم به الذكاء الاصطناعي، وضرورة الانتباه لها عند معالجة ظاهرة الانتشار الواسع، اللامحدود، وغير المسبوق للجدل الذي رافق الاستخدامات المختلفة للذكاء الاصطناعي بين دعاة متحمسين لترويجها وجني الاستفادة القصوى منها، ومحافظين يحذرون من مغبة تحويلها إلى أداة يستفاد منها في الأنشطة الإنسانية، الفردية منها والمجتمعية.

الأمر الذي ينبغي الاعتراف به من قبل الفريقين المختلفين، بين مؤيد ومحذر، هو تجاوز الذكاء الاصطناعي حدود المختبرات والصناعات المتخصصة، وفرض نفس، كظاهرة، كقوة تحويلية حقيقية، يمتد تأثيرها إلى كل جانب من جوانب الحياة البشرية تقريباً، على النطاقات كافة: الجغرافي، والسياسي، والمجتمعي.

هذا الأمر يتطلب منا إعادة تشكيل تصورنا لهذه الظاهرة المتفردة في تعدد أوجه استخدامها، على المستوى الأفقي، وعمق، ومدى تأثراتها على الأنشطة الإنسانية على المستوى العمودي. فعلى العكس من العديد من التطورات التكنولوجية الأخرى التي تقتصر تأثراتها على صناعات معينة، أو مناطق جغرو- سياسية محدد، فإن تأثير الذكاء الاصطناعي كوني بطبيعته. ويتكامل مع الاقتصاد العالمي والسياسة والديناميكيات الاجتماعية والمساعي العلمية من حيث استخداماته.

نسعى خلال هذه المقالة لاستكشاف طبيعة الذكاء الاصطناعي متعددة الأبعاد، وتسليط الضوء عن جوانب اختلافها عن التقنيات السابقة من خلال تجاوز الحدود الإقليمية والقطاعية. فبينما فشلت بعض الابتكارات في تحقيق صدى عالمي، رسخت تطبيقات الذكاء الاصطناعي نفسها داخل أنظمة مترابطة، أدى، في نفس الوقت، إلى التغيير وترك علامة لا تمحى عبر قطاعات متعددة. ومن خلال هذا الفحص الشامل، نهدف إلى فهم الأبعاد العالمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للتطبيقات المتعددة لخوارزميات الذكاء الاصطناعي.

بفضل كل ذلك، يتفرد الذكاء الاصطناعي بقدراته اللامحدودة على صهر، ومن ثم دمج الأبعاد العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في بوتقة مشتركة. وهو بذلك، على العكس من الموجات التكنولوجية السابقة مثل الثورة الصناعية، التي اقتصرت على أنظمة الإنتاج.

لذا نجد أن تقنيات مثل (سلاسل الكتل) Blockchain، على الرغم من ثوريتها في التمويل، مقيدة داخل الحدود القطاعية. في المقابل، تتخلل الذكاء الاصطناعي الرعاية الصحية والتعليم، والأعمال، والحوكمة، مما يؤدي إلى التغيير المنهجي في جميع أنحاء العالم.

وتقدر توقعات شركة برايس وترهاوس كوبرز (PWC) حصة الذكاء الاصطناعي بحوالي 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول العام 2030. وهذا تأثير مماثل للناتج المحلي الإجمالي الحالي المشترك للصين والهند مجتمعين. وهذا يوضح قابلية تطبيق الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي، مما يؤثر على كل من الأسواق المتقدمة والناشئة.

وتشير بعض التقديرات، إن تركيز الصين على الإنتاجية المدعومة من الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعزز ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 26% بحلول العام 2030. على نحو مواز، من المتوقع أن تحقق أمريكا الشمالية نموا بنسبة 14.5%، مما يوضح كيف في وسع تقنيات الذكاء الاصطناعي تسريع القدرة التنافسية الاقتصادية العالمية.

البُعد الاجتماعي لـ "الذكاء الاصطناعي"

  1. ابتكارات الرعاية الصحية

بين يدي تقنيات الذكاء الاصطناعي تطبيقات متقدمة، تخاطب قطاع الرعاية الصحية على نحو مختلف، وبآفاق أوسع. يساعد ذلك التحليلات التنبؤية المستشفيات على إدارة تدفقات المرضى، بينما تحدد أدوات التشخيص التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي الأمراض بشكل أكثر دقة. على سبيل المثال، طورت DeepMind من شركة Google نماذج الذكاء الاصطناعي، فقد نجحت في اكتشاف طرق تشخيص ما يربو على أكثر 50 مرضا في العيون من فحوصات الشبكية، متفوقة على المتخصصين من البشر الآخرين، أو حتى نظيراتها من البرمجيات والمعدات الأخرى المرافقة لها. كما توفر روبوتات الدردشة التي تعمل بنظام الذكاء الاصطناعي مثل Woebot دعما للصحة العقلية في الوقت الفعلي (online)، مما يوضح كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل رعاية المرضى من خلال زيادة إمكانية الوصول إلى الأهداف المرجوة، عبر طرق مختلفة.

  1. التحول التعليمي

الذكاء الاصطناعي أيضا ثورة في التعليم من خلال منصات التعلم الشخصية مثل Khan Academy وCoursera. تستخدم هذه المنصات خوارزميات لتخصيص المحتوى وفقا لسرعات تعلم الطلاب وتفضيلاتهم، مما يعزز المشاركة. كما يقوم Squirrel الذكاء الاصطناعي الصيني بتكييف الدروس في الوقت الفعلي بناء على تقدم الطلاب، مما يدل على قدرة الذكاء الاصطناعي على إضفاء الطابع الديمقراطي على التعليم على نطاق واسع.

هذا لا ينفي بعض السلبيات التي يفرزها استخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي. إذ يثير تكامل الذكاء الاصطناعي بعض التحديات. إذ يمكن أن تعزز التحيزات الخوارزمية عدم المساواة المجتمعية، كما هو الحال عندما وجد أن أدوات التوظيف باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي تميز ضد المتقدمات في قرارات التوظيف. ويعد ضمان الشفافية والإنصاف في هذه الخوارزميات أمرا ضروريا للتخفيف من توليد مثل هذه المشكلات.

** خبير إعلامي

الأكثر قراءة