حسن نصرالله.. شهيدا على طريق القدس

 

د. هيثم مزاحم **

 

لا شك أنَّ اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في الغارة الجوية التي دمرت 8 مبانٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت بـ80 طناً من المتفجرات يوم الجمعة الماضي، هو تحوّل كبير في المعركة بين الكيان الإسرائيلي ومحور المقاومة، وبخاصة حزب الله.

وتزعم إسرائيل أن حزب الله في وضع سيئ؛ إذ دُمر أكثر من نصف قدراته النارية وأنه بقي لديه بضعة آلاف من القذائف الثقيلة، وبضعة مئات من الصواريخ الدقيقة بحسب زعم الصهاينة، بعدما تم اغتيال قادته الكبار. وعليه يعتقد قادة الاحتلال الإسرائيلي أن هيكلية منظومة القيادة والسيطرة لدى الحزب مشوشة كثيراً، وأن هناك الكثير من نشطاء الحزب في المستشفيات بعد تفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكي والغارات المتواصلة على مواقعه ومنصاته، وأن كوادر الحزب لا يستطيعون الاعتماد على منظومات الاتصالات الخاصة به. لكن الضربة الأكبر التي تلقاها حزب الله ومحور المقاومة حتى الآن هو اغتيال نصرالله. فهو ليس مجرد قائد سياسي وعسكري لحزب مقاوم، فهو عملياً قائد محور المقاومة خاصة بعد اغتيال قائد لواء القدس في حرس الثورة الإيرانية قاسم سليماني.

كما أن السيد حسن نصرالله هو عالم دين محبوب ينتسب إلى آل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وخطيب مفوه له كاريزما وخطاباته ومواقفه تهز الوجدان العربي والإسلامي. وقد جعله انتصار حزب الله عام 2000 بتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي ومن ثم انتصار حرب تموز/ يوليو 2006، وتحديه للكيان الإسرائيلي ودعمه للمقاومة الفلسطينية، وخصوصاً جبهة إسناد غزة في أعقاب طوفان الأقصى منذ عام تقريباً، كل ذلك جعله بطلاً عربياً وإسلامياً ورمزاً لحركات التحرر العالمية، تجاوز جمال عبد الناصر وتشي غيفارا، خصوصاً في قدرته على إرعاب العدو الإسرائيلي وتنفيذه لوعوده الصادقة بالرد على أي عدوان إسرائيلي على لبنان، ونصرته للشعب الفلسطيني.

 

وقد دفع نصرالله ثمن مواقفه ومعاركه ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة موقفه الثابت بعدم وقف جبهة الإسناد في لبنان حتى يتوقف العدوان على قطاع غزة، برغم كل التهديدات الإسرائيلية، والضغوط والإغراءات الغربية.

ومن المؤكد أن استشهاد نصرالله خسارة لا تعوّض سواء داخل حزب الله أو داخل محور المقاومة، فلا توجد شخصية توازيه من حيث الكاريزما والشعبية والخطابة والتصميم والإخلاص داخل الحزب والمحور. فهو قد بدأ حياته الدينية والجهادية قبل العام 1982 عندما كان في عمر ال16 سنة عندما التحق بالحوزة الدينية في النجف ومن ثم بدأ نشاطه السياسي في العام 1978 مع حركة أمل قبل أن ينضم إلى مؤسسي حزب الله في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982.

وهكذا، قدم 42 عاماً في الجهاد في المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان منها 32 عاماً أميناً عاماً لحزب الله منذ فبراير 1992 بعد اغتيال إسرائيل للأمين العام السابق عباس الموسوي.

وسواء اتفق السياسيون أو اختلفوا مع نصرالله في آرائه ومواقفه وسياساته، فإن الجميع كان يكن له الاحترام والتقدير والإعجاب ويقرون بتصميمه وإخلاصه لمبادئه ووطنيته وتفانيه من أجل وطنه وأمته ودينه، متجاوزاً الخلافات المذهبية والدينية والقطرية. حتى أن العدو الإسرائيلي كان يعترف بقدرات نصرالله السياسية والعسكرية والكاريزما الشعبية التي يملكها وسحره وفصاحته وقدرته على الإقناع، وصدقه حتى أن الجمهور الإسرائيلي كان يصدق نصرالله أكثر من تصديقه لقياداته. وكان شعار نصرالله بأن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، والذي شكّل هاجساً لنتنياهو وحكومته وجيشه وشعبه، بحيث كلما تصاعدت الأزمات والانقسامات داخل الكيان، استشهد الكتاب الإسرائيليون بكلام نصرالله بأن إسرائيل فعلاً أوهن من بيت العنكبوت. حتى أن نتيناهو قد شمت به بعد اغتياله بأننا قتلنا صاحب هذه المقولة وأن إسرائيل مصنوعة من أوتار صلبة.

ومع إقرارنا بهول المصاب وعظمة الخسارة، وبحجم الضربة التي وجهها العدو للمقاومة في لبنان، ابتداء من تفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكي ومروراً باغتيال قادته العسكريين فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وقادة قوة الرضوان وقائدي القوة الجوية والصاروخية إبراهيم قبيسي ومحمد سرور، وصولاً إلى اغتيال نصرالله والقائد العسكري علي كركي في قصف المقر المركزي لقيادة حزب الله في حارة حريك، لكن ظهور نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم بعد يومين لإعلان استشهاد نصرالله وكركي وأن الحزب سينتخب لاحقاً أميناً عاماً له وأن كل مسؤول يستشهد هناك نائب له يتولى المسؤولية مكانه وهناك بدائل لكل مسؤول. كما أكد قاسم أن الحزب لا يزال يتمتع بمنظومة القيادة والسيطرة وأنه سيواصل معركته لإسناد غزة والدفاع عن لبنان والانتقام لمقتل قادته وعناصره والمدنيين في لبنان.

وأثبتت المقاومة قدرتها على مواصله عملياتها ضد مواقع قوات الاحتلال وثكناته وتجمعاته ودك مستوطناته بالصواريخ في الجليل وإصبع الجليل والجولان المحتل وصولاً إلى حيفا وتل أبيب، في تأكيد على سلامة منظومة القيادة والسيطرة واحتفاظ الحزب بعشرات آلاف الصواريخ الصغيرة والمتوسطة المدة وبعيدة المدى. وعلى الرغم من تركيز المقاومة في إطلاق صواريخها وخاصة بعيدة المدى، بحيث تقتصر على عشرات الصواريخ يومياً مع قدرتها على إطلاق المئات منها يومياً، فلعل ذلك يعود إلى اعتقاد قادتها بأن المعركة طويلة ومن الحكمة الاقتصاد بضرب الصواريخ حتى تتمكن من ضرب الكيان الإسرائيلي على مدى عامين على الأقل.

وقد رد حزب الله على الاغتيالات والغارات الوحشية على لبنان بقصف الجليل وحيفا وتل أبيب ولكنه رد أولي وليس الرد الكامل الذي سيأتي تباعاً.

وجاء أمس الرد الإيراني المتأخر بقصف إسرائيل بالصواريخ البايستية، بعد شهرين من اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، رداً على اغتيال هنية ونصرالله والعميد عباس نيلفروشان قائد فيلق القدس في لبنان.

ولعل الرد المتأخر كثيراً خير من عدمه، وقد جاء خشية تآكل الردع مع إسرائيل، بعدما شعر نتنياهو أن رد محور المقاومة على ضرباته واغتيالاته كان محدوداً ومدروساً وغير مؤذٍ للإسرائيليين مما شجعه على الاسترسال في الاغتيالات ابتداء من عدوان تفجيرات أجهزة الاتصالات ومن ثم اغتيال قادة فرقة الرضوان وأخيراً اغتيال نصرالله.

وكان حزب الله كان يوازن رده محكوماً بعاملين هما: عدم الانجرار إلى حرب مفتوحة وشاملة قد تورط إيران في حرب إقليمية مع أميركا، وعدم تعريض المدنيين في لبنان إلى التهجير والقتل وتدمير مبانيهم ومنازلهم ومتاجرهم. وقد فهم نتنياهو ذلك التردد والتحفظ على أنه ضعف مما أفقد حزب الله قدرة الردع فقام العدو الإسرائيلي بكسر جميع قواعد الاشتباك وتجاوز كل الخطوط الحمر باستهداف بيروت والمدنيين واغتيال قيادات حزب الله وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصرالله.

وقد شعر نتنياهو وحكومته وقادة جيش الاحتلال بنشوة النصر والقوة الفائضة بحيث يريدون القيام بعمية برية محدودة في جنوب لبنان لخلق حزام أمني عازل قد يمتد إلى نهر الليطاني من أجل منع وصول المقاومين إلى الحدود واستهداف المستوطنات بالقذائف والصواريخ في محاولة لإعادة سكان مستوطنات الشمال إلى منازلهم بعد عام من تهجيرهم.

ويأتي فشل محاولات التسلل في العديسة ومارون الراس ومقتل وجرح عدد من الجنود الإسرائيليين لتظهر قدرة المقاومة على الصمود ومنع أي غزو بري، وتكبيد العدو خسائر كبيرة، وهو ما سيجعل العدو يعيد حساباته بالتدخل البري، أو سيواجه ملحمة مع المقاومين على غرار معركة وادي الحجير في لبنان عام 2006 أو مواجهات المسافة صفر في قطاع غزة.

ويتوهم نتنياهو بأن حزب الله ومحور المقاومة في أضعف أوقاته وأن بإمكانه إذا واصل الحرب إضعاف الحزب وتفكيكه وتقويض المحور، لفرض شروطه بانسحاب المقاومة من منطقة جنوب نهر الليطاني إلى شماله ونزع سلاح الحزب. بل يعتقد نتنياهو أن انتصاره الموهوم سيغيّر المشهد في الشرق الأوسط وسيجعل إسرائيل تتربع على عرشه ويجعل الدول العربية تزحف للتطبيع معها.

نذكّر نتنياهو بأن سلفه أرييل شارون قد وصلت دباباته إلى العاصمة بيروت صيف عام 1982 وتم فرض بالقوة رئيساً للجمهورية، وفرضت على لبنان معاهدة سلام مذلة عرفت باتفاقية 17 أيار/ مايو 1983. وما هي إلا أيام حتى بدأت عمليات المقاومة اللبنانية من قلب شوارع بيروت وصيدا وصور والنبطية حتى اضطرت إلى الانسحاب من بيروت خلال أسابيع ومن معظم الجنوب والبقاع الغربي خلال سنتين فقط. وكانت المقاومة أنذاك تقتصر على مئات المقاومين من أحزاب مختلفة تتقدمهم المقاومة الإسلامية وعملياتها الاستشهادية ابتداء بتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في نوفمبر 1983، وهي العملية التي قال إن القائد فؤاد شكر قد خطط لها أنذاك ونفذها الشهيد أحمد قصير.

في بداية عمليات حزب الله نصرة لغزة منذ الثامن من أكتوبر 2023، كان الحزب ينعى مقاتليه الشهداء في بياناته بالقول إنهم استشهدوا أثناء تأدية واجبهم الجهادي، إلى أن طلب نصرالله من مسؤولي الحزب استبدال هذه العبارة بالقول إنهم سقطوا شهداء على طريق القدس. كان نصرالله يتمنى أن يصلي في القدس بعد تحريرها، لكنه سقط شهيداً على طريق القدس.

 

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية- لبنان

الأكثر قراءة