علي بن سالم كفيتان
بيَّنت الأيام أنَّ لدينا قطاعًا خاصًا ضعيفًا يهدف للتكسُّب من خلال المُبادرات التي تضعها الحكومة كحلول لخفض أعداد الباحثين عن عمل في البلاد، عن طريق تفصيل برامج تدريب في عدد من الشركات الكبيرة أو الناشئة، وبعض تلك البرامج تستمر لسنوات دون بارقة أمل للتوظيف الدائم، في الوقت الذي يُمنح فيه الباحث خلال فترة التدريب تلك فُتات المبادرات الحكومية، بينما يذهب جُلها إلى حسابات الشركات؛ مما ولَّد تجارة مُستترة تقوم على حساب الأزمات الوطنية، وبعد أن يركض الباحث في برامج تدريبة مارثونية، ويصبح مهيأً للعمل، يجد نفسه على رصيف البطالة مجددًا، بينما تتكسب تلك الشركات من مبادرات التشغيل الحكومية ومن عرق وجهد الباحثين عن أمل!
وتسمين الشركات النفعية لن يحل قضية الباحثين عن عمل؛ بل سيزيد من الشعور بعدم الرضا، عندما تُوجَّه موارد التشغيل المُخصَّصة من الميزانية العامة للدولة إلى طرف ثالث غير مستعد للدخول في شراكة وطنية حقيقية لحل الأزمة، ونرى من الأجدى والأنفع توجيه تلك الموارد بشكل مُباشر للباحثين؛ سواء أكان ذلك في هيئة وظائف حقيقية في القطاع الحكومي أو في الشركات التابعة لجهاز الاستثمار، أو من خلال تكييفها كمعونةٍ مؤقتة للباحثين عن عمل، حتى يتم إيجاد حلول ناجعة لتشغيلهم مستقبلًا. ومن الأهمية بمكان إعادة تقييم مُبادرات وزارة العمل وكفاءة مُخرجاتها ونسبة الذين تم تشغيلهم من تلك المبادرات في وظائف حقيقية، يستطيع من خلالها المواطن تكوين نفسه، ويشعر بالأمان الوظيفي والاستقرار النفسي. المتابع لهذه المبادرات قد يرى فيها نوعًا من الهروب إلى الأمام؛ كونها لم تُقلِّل أعداد الباحثين عن عمل بالدرجة المأمولة، وعلى أقل تقدير لم تُثبِّت الرقم باستهداف نسب الزيادة السنوية المُلتحقة بسجل الباحثين، ولو نجحت المبادرات لاستطاعت الحفاظ على عدد ثابت أو قلَّلت منه، في ظل زيادة الأعداد، عبر تصريحات مفتوحة لا رقم ثابتًا لها، سوى أن أعداد الباحثين تتعدى الـ100 ألف، وهذا يعني أنهم ربما بلغوا ضعف هذا الرقم؛ مما يُشير ضمنًا إلى الإخفاق في مُعالجة هذه القضية الوطنية الحساسة.
وجود ما يقرب من 2 مليون عامل وافد يتنافسون بشكل غير عادل مع المواطن، يُشكِّل علامة استفهام كبيرة، ينبغي الالتفات لها، ولو افترضنا أن نصف هذه الوظائف مهن عمالية بسيطة قد لا ينخرط المواطن فيها؛ نتيجةً لمردودها المادي الضعيف الذي لا يُلبِّي احتياجات المواطن؛ فهو يريد الزواج وشراء سيارة وبناء أو استجار منزل، بينما العامل الوافد قد يعيش على مبلغ ضئيل جدًا، ويحوِّل الباقي إلى بلده. من هنا لا يُمكننا وضع مُقارنة بين الوافد والمواطن في هذا النوع من المهن، وليس من الحكمة اتخاذ مثل هذه الأسباب كشماعة لرسم صورة باهتة عن الباحث عن عمل، في الوقت الذي يتكدس فيه الخريجون بمختلف التخصصات المهنية العالية في البيوت، بينما بعض شركات القطاع الخاص التي تُوَجَّه لها الموارد وتنعم بالتسهيلات، تُوَظِّف من خارج سوق العمل العُماني، تحت مظلة الترويج لجلب الاستثمار الأجنبي غير الآبه بسياساتنا التشغيلية. وهناك أمثلة كثيرة كاشتراط الشركات والمستثمرين جلب طواقمهم الوظيفية من بلدانهم في مشاريع عملاقة، بعضها داخل المناطق الحرة والصناعية، في الوقت الذي يتم إعفاؤهم من كل الرسوم والضرائب. وهنا التساؤل أين القيمة المضافة لتلك المشاريع؟!
كمستشعرين لنبض الرأي العام، يتوجَّب علينا طرح القضايا الوطنية بمنتهى الشفافية والمصداقية، وهذا لا يُقلل بأي حال من الأحوال من جهد المسؤولين، ورغبتهم في معالجة تلك القضايا، وما يأتي هنا أو من خلال التواصل الاجتماعي يجب أن يُدرَس بعناية بالغة، ويجب علينا قراءة الشارع بتمعنٍ، وأن تكون لدينا حلول قريبة المدى، يستطيع المجتمع تلمُّسها في حياته اليومية، والتقليل من تكبيل المبادرات الحكومية المُوجَّهة للمواطن بشروط قد تكون تعجيزية تستند إلى حسابات لوغاريتمية يصعب فك شفرتها، فهذا يغذِّي الشعور بالإحباط، ويزيد من توسيع البون بين الطرفين بمرور الوقت، ويساهم بشكل صامت في "تضخم الفيل داخل الغرفة" كما يُقال!
*********
قبل كتابة هذا المقال وفي إحدى الليالي الخريفية الباردة والممطرة في ظفار، حضر شاب شارف على الثلاثين إلى بيتي، مُدجج بشهادات ضمن إحدى مبادرات التشغيل التي عُقدت في مسقط لمدة عام، تكفَّل خلالها والده باستئجار مسكن له ومصاريف المعيشة والنقل طوال تلك الفترة، لكنه لم يجد وظيفةً بعد تخرجه، فقال لي بكلمات مُنكسرة "أرجو أن توصل رسالتي للحكومة"؛ وها أنا ذا أفعل.
... وحفظ الله بلادي.