الضمير.. بوصلة الإنسانية

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

ما يحدث في العالم من مآسٍ أصبح يستفز كل ضمير حي، فقد بحت الأصوات في غزة، وعزَّ عليها أن تلاقي رجع صدى ينتشل ما في الصدور من الضيق إلى السعة، ومن القهر إلى العدل، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن الخذلان إلى النصرة.

نسمع كلمة الإنسانية من عالم قاتل، ظالم، وضع مفهوم الإنسانية لتخدير الجراح وتسكين الآلام، وأصبحت الإنسانية لعنة على الإنسانية، في عصر كلما زاد تطورًا وعلمًا، زاد انحدارًا وانحطاطًا.

تأملتُ كثيرًا في مفهوم الإنسانية، كنت أحسبه يعني الضمير الذي في جوف كل إنسان، أو تلك الأخلاق المكتسبة بالفطرة، أو حب الخير للغير أيًا كان/ لكن مع ما يرتكب من جرائم في حق الإنسان الفلسطيني أدركت معاني أخرى، إن معانيها تطورت، ومجالاتها توسعت، فأصبحت شاملة تستخدم بلا كيف ولا متى ولا حتى لماذا.

قبل الخوض في غمار التفاصيل، نقول: إن الصفة اللصيقة بأفعال الكيان الصهيوني أمر لا يمت للإنسانية في شيء... ولعل أول ما يلج إلى المخيلة، هو أن كل ما يجري في أرض فلسطين لم يستطع إيقاظ الضمير الإنساني، ولم يملأ الخواء الروحي في أن يجعل الحياة وسيلة لا غاية، لقد أبصر العالم نجوم الفضاء، وعمي عن القذاة في العين، استصلح تربة المريخ وجعل تربة الكوكب الذي نعيش فيه بورا غير صالحة للحياة الإنسانية، في أوج مراحل زمن التقنية والمعلوماتية، وحمم براكين الابتكارات والمحدثات في كافة الميادين، فلا نلبث لحظات يسيرة مع مستحدث جديد نتأمل صورته، إلا داهمنا ما ينسينا الأول... ووسط دوامة الإبادة التي يرتكبها الكيان اللقيط بحق الأطفال والنساء والشيوخ في غزة، تتوارد مئات الأسئلة، كلها تلح على بحث مفهوم الإنسانية التي يعنيها عالم التكنولوجيا المتوحش... عند الإجابة، سنجد أن كل الأفعال اللا إنسانية أصبحت تلتصق باسم كيان تم اصطناعه في أرض مهد الإنسانية والوجود الإنساني... لقد ضجت هذه الأرض من جرائم أزيز طائرات وحوامات جيش الكيان المأزوم، هدير عربات جنده المذعورين، والسماء في غزة ملبدة بأدخنة قاذف صواريخه، المدعوم بها من قبل زبانيته في أمريكا، يحصد بها أرواح الأبرياء... لقد مر ما يناهز أحد عشر شهراً على اليوم الذي فرك فيه الأنف الذي تنبعث منه نتانة جرائم الإبادة ضد الإنسانية، ومرغ جسده اللقيط بالذل والهوان.

فبعد انتهاء حصاد عملية طوفان الأقصى، تجيء اللحظة التي يعاني فيها الكيان اللقيط من أزمة وجوده، يقول قطعان مستوطنيه: "ليست هذه الصورة التي تخيلناها لحياتنا"... خزن المقاومون الفلسطينيون يوم 7 أكتوبر ثمار جهدهم، وجمعوا جنود الكيان اللقيط في حفرة، أوقعوه في كمائن الموت، وسطروا بها ملحمة تاريخية تفخر بها الأمة العربية والإسلامية والأحرار، مرروا بنودها على شكل إشعاع تنبعث منه حبال العزيمة الثابتة، والمتوازنة فوق الأرض، ساعدتها على تبديد تيار الريح الكريهة اللا إنسانية المنبعثة من كيان لقيط... طلتها بلون دماء الشهداء، ورائحة المسك، أزالوا قشرة سميكة من النتانة كانت قد حجبت الحرية لأكثر من 76 عامًا.

عندما غشى الليل النهار، كان نسيم ليلة 7 أكتوبر ليس ككل ليلة من ليالي الاحتلال الغاصب... أصبحت أرض فلسطين على غير عادتها مزهوة بألوان الحرية، لقد أنعشت المقاومة قضية الأمة برائحتها الزكية، واسلوبها النضالي، بشكل من أشكال العزيمة الواثقة، بمهارات مقاوميها، وأصحاب الأرض المرابطين فيها... قد يكون في اعتقاد البعض أن ليلة 7 أكتوبر مغامرة غير محسوبة، لكنها عند الإنسانية الحرة مناسبة عظيمة وخزت الضمير الإنساني للتخلص من انبعاثات أفعال الكيان اللا إنسانية.

كل المقاومون وأحرار العالم، دعوا العالم لمعرفة مكان انبعاث الروائح التي تؤذي الإنسانية بعد أن انكشف الغطاء، ليجلسوا مصطفين متقابلين على طول وعرض أرض فلسطين، من غزتها إلى ضفتها، جنوبها وشمالها، لعلهم يوجهون بوصلة الضمير الإنساني نحو ما يرتكبه الكيان اللقيط في الفلسطينيين من إبادة جماعية.

تعليق عبر الفيس بوك