خميس البلوشي
بعد أن سلّم الإمام من صلاة الفريضة في مسجد الحارة، وقف هو بثبات أمام جموع المُصلين، لا ليخطب ولا ليعظ؛ بل ليكشف عن حضور الحاجة الإنسانية في لحظة تكون مُفعمة بالطمأنينة بعد أداء الفريضة.
أعلن حاجته بهدوء، مستندًا إلى ما تبقّى من كرامته، وسرد ضائقته المالية بصوتٍ يختلط فيه الحزن بالألم، دون أن يتخلى عن تماسكه. ثم اتَّجه نحو باب المسجد، كأنما يحمل همًّا أثقل من أن يُحتمل، وجلس عند العتبة، حيث لم يعد المكان مُجرد ممرٍّ للعابرين، بل بات شاهدًا صامتًا على مُعاناة تُخفَّف بالصدقات، يقدّمها المصلّون كلٌّ بحسب استطاعته.
وفي صلاة المغرب تكرّر المشهد ذاته، غير أنّ عرض الحاجة هذه المرة جاء مصحوبًا بمستندات تثبت حاجته.، وبنبرةٍ يختلط فيها الطلب بشيءٍ من اللوم، تتكرّر فيها العبارة نفسها: «يا إخوان»، طلبًا للمساعدة المالية. ولم تعد هذه الصورة استثناءً عابرًا، بل باتت مألوفة في وعي مرتادي المسجد؛ إذ يظهر بين حينٍ وآخر من يقف بلا تردّد، يستعرض مشكلته أمام هذا الجمع، ثم يركن إلى باب المسجد منتظرًا ما تجود به الأيدي. مشهدٌ يفرض نفسه، ويستدعي تساؤلات تتجاوز التعاطف الآني: هل نحنُ أمام ظاهرة اجتماعية آخذة في التكرار؟ أم مشكلة اقتصادية أعمق؟ أم أنّها إحدى إفرازات الضغوط المعيشية التي يرزح تحتها ذوو الدخل المحدود؟
أن يقف الإنسان أمام الجمع ويستعرض مُعاناته خلال دقائق، في أحد أطهر أماكن العبادة وبعد أداء الفريضة، دون ضحك أو تلعثم أو أي تردد في صياغة كلامه، أمر يستحق التأمل. يبرز هذا المشهد بوضوح خلال مواسم الطاعات، كرمضان وأيام الحج، ليطرح أمام المتأمل تساؤلات عميقة حول المعاناة الإنسانية ودور المجتمع: هل وصل مستوى التمثيل أو الأداء الجسدي لهذا الحد من الإتقان لدى هؤلاء؟ أم أنّ ما نراه هو الحقيقة ذاتها، بينما لم نصل نحن بعد إلى تمييز واضح بين الواقع الصادق لهؤلاء في عرض حاجاتهم وطلب المساعدة، وبين الصورة الأدائية التي يتهمون بها أحيانًا، حيث يُنظر إليهم على أنهم مخادعون أو مستغلون للمشاعر؟
وقد يُنظر إلى هذا الفعل أحيانًا على أنّه نوع من التسوّل، والتسول مرفوض اجتماعيًا وقانونيًا بلا شك. كمصلٍ، قد تجد نفسك بعد صلاة الفريضة أمام شخص يطلب المساعدة، خصوصًا إذا صادف أن الإمام خلال الصلاة الجهرية كان يتلو آيات الصدقات. حينها تخرج من الصلاة لتواجه هذا الواقع مباشرة، لتصبح شاهدًا حيًا على احتياجات إنسانية تبرز أهمية الصدقة وعون الآخرين، وتخضع لاختبارٍ داخلي قبل التصرف، لتقرر ما إذا كنت قادرًا على فعل الخير أم لا.
المسار يبدأ بالنظر إلى هؤلاء والاستماع لهم بإنصاف، وهنا يتجلّى الدور الاجتماعي للمسجد في حياة الناس، ذلك الدور الراسخ الرصين. فهل اقتصر دور المساجد على الصلوات الخمس والمحاضرات الوعظية ومجالس العزاء وعقد القرآن فقط؟ ألم يكن بالإمكان أن يجلس المسؤولون عن المسجد مع هذا الرجل، يستمعون إليه، ويبحثون حول معاناته؟ ألم يُعَد المسجد مساحة للتدخل المجتمعي الإيجابي؟ وماذا لو امتدت المبادرة لتشمل إنشاء وحدة اجتماعية في المسجد لمناقشة الأحوال الاجتماعية، والعمل على حلول عملية ملموسة، بدل الاكتفاء بالمشهد الفردي؟
منذ لحظة وقوفه أمام جمع المصلين بعد انتهاء الصلاة، مرورًا بجلوسه عند عتبة الباب، ثم اختفاء الناس، وجمعه ما حصّل من التبرعات، يظل المُصلِّي المتلقي يتردد في الحكم: هل هذا الشخص صادق في حاجته أم لا؟ ومع فهم الصورة بأبعادها الإنسانية والاجتماعية إلى حد ما، يبقى الأمر مقلقًا، ويطرح تساؤلات أعمق عن مدى مسؤوليتنا كمجتمع، ودور المؤسسات الدينية والاجتماعية في تلبية الحاجات الواقعية للأفراد قبل أن تتحول إلى مشاهد يومية معتادة.
