قصة الوادي الصغير (8)

 

بقلم/ حمد الناصري

قال كبير غُرباء ذو الوجوه الحُمر المُكتنزة لثلّة من رجاله خلال لقائه معهم:

ـ علينا أنْ نتوصّل لطريقة نُطفي بها غضبهم ونُغيّر من قناعتهم بأننا غُرباء ذو وجوه حُمر لا خير فينا وأنّ وجودنا في الوادي الصغير لزرع الفتنة وتفتيت وِحْدتهم وتقسيم الوادي الصغير، و إيْقاد الصّراعات بين كبارهم على السُلطة .

ونحن وأولئك الشرقيون خُصوم في التوجهات والمنافع والمصالح منذ نشأة التأريخ، وحين علموا بأنّ الأعراب يَظنون بنا الظُنونا ، انتهجوا سياسة اللّين والمُسايرة ، إنّها حركة ماكرة لإغْراء الأعراب بِحُسن أهدافهم ونواياهم على أساس يَضمن لهم التغلغل إلى كيان أمة الوادي الصغير ..

   والحقيقة أشعر بالحرج، أننا رغم السّنين الطويلة التي قضيناها هنا ورغم تعاقداتنا وتجارتنا المُستمرين والطويلين إلاّ أننا لم نتوصّل لتلك الفكرة لمثل هذا الموقف والذي يُحقق لنا أهداف مشروعة في بلاد الأعراب..

ولذا أرى أن من واجبنا وإلْتزامنا بالتمسّك بمصالحنا في التجارة مع الأعراب، فيجب أنْ نقوم بالرد على مكائدهم بشنّ حرب دعائية ، ونُشِيع أخباراً مجهولة المصدر، مفادها أنّ الشرقيين ذو العيون الزرقاء هُم من أسّس العُبودية منذ زمن غابر ، وأنّ العُبودية نظام عُنصري مُجحف وظالم للبشرية ، وأنهم يَحقدون على كل ذي سُحنة حمراء أو سَمراء او شَقراء تُخالف سُحنتهم وعرقهم ويرون أنّ ذو السُحنة البيضاء والعيون الزرقاء هم الأحق بالحياة والريادة.. وأنهم يَنشرون أدوات المَكْر في بلاد الوادي الصغير، بثقافة الغزو الحضاري والفكري الشامل على أمّة الأعراب ، وبمنهجية ثُلاثية تبشير وانتشار واستعمار فكري... والأعراب وبسبب سذاجتهم سَيُصدقون الحكايات والقصص المَروية حتى وإنْ كانت بلا مَصدر معروف، ويَصنعون لها واقعاً مكذوباً ثُم يُصدقونها.!

ومن ثم سَنتّخذ مِن بين الغُرباء الشرقيين ذي العيون الزرقاء، شُخوصاً مُختلفين معهم في العقيدة والتوجه ونشحنهم بالأفكار المُستوحاة من البيئة الشرقية ليزيدوا النار اشْتعالاً، وبذلك نكون قد جيّشنا عليهم رجالاً منهم، وأوْقَعنا بينهم وبين الأعراب العداوة والبغضاء ليكونوا خُصُوماً بل وأعداءً وتَنفض شراكتهم ويَنقض حِلْفَهم. ونستخدم في حَملتنا تلك كل ما يتعلّق باخْتلاف المُعتقدات وروايات تفريق مُجتمع الوادي الصغير إلى مُجتمعات صغيرة قابلة للسيطرة والتحكّم، وأخص هنا تمكين الحارات العشر المُشتتة لتكون مُتحد مُستقل عن الوادي ، وعزل القريتين ، التراث والأعلى عن قرية البحر.

وبهكذا جدل وصِيْغة جديدة سنخلق كيانات مُمَزّقة ومُتفرّقة يَسهل علينا التحكّم بها  ، لتتوافق مع نظرتنا في جَعْل الشرق ضعيفاً ومُفككاً لا يُشَكّل أيّ خطر علينا في المُستقبل وبما يتطابق مع هدفنا الابْعد في استعمار بلاد الوادي الصغير.

تحدث أحد الحضور من المُجتمعين يكتمُ سِرّاً ، ويتحدّث بمكر قائلا:

ـ ما يهمنا الآن هو أنْ نفصل قرية البحر عن سيح الحارات ونعزل القريتين ونُشْعِل الفتنة في كل رمال الاعراب ونُفَرّقهم ، وندسّ أفكارنا في مَبادئهم ونُدعم الاضطهاد والظلم في مُجتمعاتهم ، ونُؤيد ما يُسرد من الحكايات المُلفقة كقصص السحر والاساطير عن عوالم العفاريت والجن ، ونسعى بجدّية على نشرها على أوسع نطاق ونجعلهم في حيرة من أمرهم  بين مُكَذّب ومُصَدّق ونبثّ مَفاهيم مُنحرفة ، عن الحقوق والعُقوق ، وعن أحقية الرجل في اسْتعباد المرأة ومُمارسة الفساد والإفْسَاد ، وأخيراً نُقدم نموذجنا الفكري والأخلاقي الذي سيرونه هو الافضل والمُنقذ لهم في التعايش وحُبّ الرفاه للناس.

قال شخص ضخم الجثة طويل القامة مُلتحي بلحية شَقراء :

ـ هذه أفكار رائعة وأنا أشدّ على يديك، ويجب أنْ نجد رجلاً قريباً من ملامحهم مُؤمن بخياراتنا وأهدافنا ، وندسّه بينهم ، مزارع ، بحار ، مُعلم.. تاجر عسل وتمر أو بائع لبن.

   ونُشيع كل ما يُفسد مُجتمعاتهم، ويُزعزع كيانهم واستقرارهم، ونُحبط الثقة والاحترام اللّتان تتحكّمان بتجارتهم مع الشرق ونهدم كل صِلة بينهم، وبطريقة مُحكمة، لا عُجالة فيها.

وبرأيي أنّ أهمّ ما نبدأ به الآن هو تفكيك علاقة التاجر فلوع بالمُجتمع، فنُشيع بينهم إشاعة عن مرضه ثم هربه إلى الغُرباء ذي العيون الزرقاء ونقول أنهم ، هُم من قاموا بتهريبه، ونٌشيع كذلك أنّ الغُرباء ذو العيون الزرقاء لا خير فيهم لمجتمع الوادي الصغير ، فهم الشرّ على المُجتمع ولا يمكن الركون إليهم والثقة بهم على قِيَم وأخلاق ومبادي مجتمع الوادي الصغير ..وهم قوم مُتهَتّكون يُؤمنون بتعرّي المرأة ويَدعون إلى خروجها كالرجل .. ويَدّعون بأحقيّتها في السُلطة والمَشيخة وفي استعباد الرجال كخدم وعبيد. لا حقوق لهم البتة.؛

   وندّعي أنّ زعيمهم الهارب" فلوع" يُؤمن بمعتقد ذي العيون الزرقاء ويَسْعى إلى نشره وتعميمه على أرض سيح المالح المُتحد ، ولهذا الغرض جاء تشكيل المُتحد.

قال كبير الغُرباء ذو الوجوه الحُمر المُكتنزة وكأنّ أساريره أشْرقت وبدت عليه علامات الارتياح لما سمعه:

ـ الفكرة مُمتازة وفي الصّميم.. ولكن السؤال.. كيف نتمكّن من إخْفاء " فلوع " وتسريب كل تفاصيل تلك الرواية .؟

رد أحد القوم:

ـ لا تخف لدينا عُيون في عُمق الوادي والقريتين وقرية البحر وسيح المالح. ثم اطْمئن لنْ يَحدث في مُجتمع الأعراب ولن تكون هناك الكثير من الأسئلة والتحقيقات وسَيُصدقوننا بسرعة، وتعود الأمور إلى مجاريها؛ خاصة وأنّ مُعتقد الاعراب القديم في مُعتقدهم الأصيل يتعارض كُلّياً مع مُعتقدات ذوي العيون الزرقاء ويرونها مُخالفة للقيم والعادات.. لكننّا نحتاج إلى رجل تكتمل فيه الصورة ويحمل كل تلكم المُواصفات ، كالشخصية المُراوغة واللّبقة وذات المهارة الماكرة في الجدل والتنظير ، وإشعال الفوضى الغامضة والتي لم يَطّلع على أسْرارها أحد ولا يُكتشف أمرها بتاتاً.

إنْبَرى الجمع وأخذوا في البحث عن شخصية مُناسبة لتلك المُهمة الصّعبة والمُعقّدة وتنطبق عليها المُواصفات المطلوبة، وبعد جدالات ومُناقشات حول تلك الشخصية ومدى التوافق عليها.. وبَعد أخذ وردّ وجُهد كبير ، وقع الاختيار على رجل مُنزوي عن الجمع في أقصى المكان والْتَفوا حول " آرثر" ذلك الرجل الذي وقع عليه الاختيار والذي يَحمل ملامح أقرب إلى مُجتمع الوادي الصغير والقريتين ومُجتمع سيح المالح.

كان " آرثر" ذا ملامح قريبة من الأعراب وذو عقلية فطنة، ويمتلك فِراسَة كبيرة، مُتوقد الذكاء وسريع البديهة.. قال كبير الغُرباء ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة وهو يتفحصه:

ـ لقد تمّ وقوع اختيار القوم عليك لكي تضطلع بالمُهمة الشاقة والخطيرة وتكون المُخَلّص لبلادنا الكبيرة ومُجتمعنا المُتحضّر، فأنت واسع المعرفة وعلى علم ودراية كبيرين بثقافة مُجتمعات الأعراب، ذكي، سريع البديهة، نبيهاً، وذو حضور طاغي ، والمُهِمة هذه هيَ مُهمّة الربّ وكّلْناها إليك ومَسؤوليتنا جميعاً أنْ نُحقق أهداف شعبنا وما أمرنا به الربّ،  فكل مُهِمّة لخدمة الرّب هي مسؤولية جسيمة وكبيرة المقام.. والظروف الخطيرة تحتاج إلى قرارات خطيرة لكي نرتقي ببلادنا وتُساعد عُظمائنا وتَخذل من هُم دونهم.. وأنت من رجال بلدنا الأوفياء المُخلصين والربّ الأعلى يُحَمّلك رسالة الإنسانية، رسالة الغايات العالية، والرجولة في تحمّل قيَم مُجتمع الوادي والأعراب المُجاورة له ، هي رسالة من الربّ الأعلى إليك.. ومن الآن عليك أنْ تُكَيّف نفسك كواحد من مُجتمع الوادي، تنام أوّل الليل وتتكيّف على عاداتهم وتقاليدهم في العيش والمأكل والمَشرب حتى يتقبّل جسدك وعَقلك ظروف عيشهم وطرق حياتهم لتكون واحداً منهم، تتحمّل قسوة الحياة ومرارة العيش، ولا تُفكر بالعودة إلينا مُطلقاً والطريقة المُثلى للوصول إليهم هو أنْ تتسلّل إلى مُجتمعهم عبر البحر وأيّما يابسة تصل إليها، تكون هي نقطة انطلاقك لخدمة أهداف الربّ الأعلى.. وليكن في عِلْمُك أنّ كَسْب وُدّ الأعراب ليس بالأمر السهل، ولهذا وقع الاختيار عليك لمهاراتك في إقناع الآخرين بالكلام المَعسول والطّبْع الماكر، فكيّف نفسك مع الحياة الجديدة بالطريقة التي تختارها.. وسنُرسل لك صديقتك الداية المُحترفة كارينا" لتعمل كولاّدة للنساء وهذا أهم مَدخل إلى نساء الأعراب.؛

وكن واثقاً ولا تستبق الأحداث، و اشْتري المواقف ولا تبيع شيئاً وانتظر ردّة فِعْل المُجتمع وحَلّل كل مَن أمامك قبل الإقدام على أيّ خُطوة.

وانصحك أنْ تهتم بما يُؤمنون به لكأنك واحداً منهم وكذلك تفعل "كارينا" ولا تُخالفك فيما تذهب إليه من قرارات ومواقف.. أمّا مَدخلك إلى قلوب الرجال ومُجتمع الأعراب فسيكون عن طريق بناء مدرسة صغيرة وفق  أعرافهم وثقافاتهم الداعية إلى التسامح والألفة وتكون مُهمتك أنْ تكون مُعلماً .. وسنرسل أعْيُناً تُراقبك وتُرسل لنا أخبارك ونشاطك.. وحتى وإنْ تغيّرتَ أو قَلّ نشاطك أو فترتْ هِمّتك أو ضَعف عَزْمَك فسيتمّ التخلّص منك بالطريقة التي نراها مُناسبة.

يوم جديد يُشرق بعطاء جديد، وإشْراقة الحياة مُنْحَة السّماء، ومَشاعر عامرة بالدفء لكل الناس، تنبض بالعزم في رجال الوادي الصغير.

 

يتبع 9

تعليق عبر الفيس بوك