رجلٌ بحجم عبدالعزيز الروّاس

 

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

 

الجملة التي تناسب حجم معالي الرواس هي جملة كثيرًا ما نكررها ربما دون تفكر منَّا، جملة "رجلٌ والرجالُ قليلُ"، كانت صديقتي المرحومة بدرية خلفان رحمها الله، كثيرًا ما تُردد على مسمعي "عزيزتي لا تصدقي أنَّ كل من لبس دشداشة بيضاء هو رجل، هؤلاء ذكور فقط"، أي جنس ذكور مُقابل جنس الإناث، لأنَّ الرجال مختلفون، الرجل هو الشجاع هو الشهم هو المروءة، هو الحنون هو الفارس في أخلاقياته وطباعه، وعلى هذا المقياس فإنَّ المستشار عبدالعزيز الروّاس استثناءٌ في هذا الزمان، نعم الرواس جبل شامخ راسٍ، نعم الرواس هو الرجل والرجالُ قليلُ، كما ذكر صاحب المثل، إلّا إذا استثنينا رجال غزة، وهم قلة مُؤمنة أمام عالم فاسد مُمتد من الذكور.

كان  اللقاء الأول، ولم يكن إلا لقاءً عاصفًا أهوج الرياح منذ أن دخلتُ مكتبه الأنيق في وزارة الإعلام كان قلبي يُحدثني بأمر لم أتبين ملامحه مهما حاولتُ أن استخدم حدسي الذي لا يخدعني في مجمل الأحوال، لكن حاولتُ عبثًا معرفة سبب النداء العاجل لمكتب الرواس، إنه أمر لم  أكن أتوقعه إلا عندما رأيت مجلة العُمانية في عددها الجديد بين يديه، هنا أدركتُ أنني سأخوض غمار معركة يعلم الله وحده مداها وجهزتُ إجابات عاجلة قد تكون منطقية من وجهة نظري في مناخ مُتدثر باللامنطقية، ولأوَّل مرة سمعت كلامًا غامضًا لم أتبين فحواه سوى أنني لم أكُن موفقة في اختيار موضوعات هذا العدد الذي يدور حول الأسر الكويتية التي استضافتها عُمان ضيافة عالية المستوى لا تقل عن الخمسة نجوم في الفنادق أو في البيوت المؤجّرة لهم بحرص وعناية من قبل ديوان البلاط السلطاني، وبكرم تتميز به عُمان مع ضيوفها، وبهذا كان الموقف الحكومي واضحًا جدًا. لكن ما الذي أغضب الرواس وزير الإعلام- آنذاك- لهذا الحد، كانت نيتي كالعادة طيبة ولم أقصد بها الإساءة لوطني، لكن الموقف كان كبيرًا وتذكرتُ أنَّ العدد قد صادرته وزارة الإعلام من أماكن التوزيع دون إخطاري بالأمر كرئيسة التحرير لمجلة "العُمانية"، وأن بعض الذين اعتادوا على الكتابة في العدد وعلى تشجيعي لمواصلة العمل الشاق فيها، قد أخبروني بأنَّ هناك أُناس يسألون عن هذا العدد  كثيراً والسبب قصيدتي التي فردتها على صفحتين متقابلتين في آخرالمجلة وكانت القصيدة بعنوان "معذرةً نقولُ يا صدام".

وبسبب أنَّ هذه أول مطبوعة عُمانية تتكلم عن مُعاناة الكويتيين بعد غزو العراق للكويت، وتُجري مع المقيمين منهم معنا في عُمان تحقيقًا مطوّلًا مُصوّرًا مع التعاطف التام معهم، كان ملخص حديث الرواس بأنني غبيّة لا أفهم سياسة وطني التي تمسك العصا من المُنتصف، لا مع هؤلاء، ولا هؤلاء، وما زاد الطين بلة أنني صورتُ القصيدة لمن طلبها وهم صوروها بدورهم ووزعوها حتى وصلتْ لمكتب الرواس.. يا إلهي لقد كان غاضبًا مني بدون حدود، ويبدو لي أنه وصل مني لدرجة الغليان، وأنا بكل برود أشرح له ما لا يُشرح، حتى ارتفع صوته عالياً صارخا في وجهي وتداخلتْ الكلمات لديه غضبًا وحدةً، هنا وقفتُ قرب طاولته بحدة مشابهة قائلة ما لا يجب أن يُقال لكنه الغضب، وقلتُ بصوت عالٍ يتناسب مع تهديداته، معالي الوزير "إنما نطعمكم لوجه الله، لا نُريد منكم جزاءً ولا شكورا".

ولم انتظر رده، لكن سمعتُ صوته يُطاردني خلفي، راسلًا مدير مكتبه الذي طلب مني برجاء أن أعود معه كي يخف غضب الوزير، ورفضتُ قائلة: "هذا وزيركَ أنتَ، قل له إنها تقول: إن وزيرها في الجامعة".

يا إلهي كيف عدتُ لمكتبي، وكيف تجرأتُ بقول هذه الآية؟ صحيح إننا كعُمانيين نعمل في المجلة جميعًا مُتطوِّعين، خاصة وأنها تابعة لجمعية المرأة العُمانية بمسقط، وهي جمعية خيرية تقوم على التطوع، ما عدا الصحفية المصرية الوحيدة التي تُجري التحقيقات الصحفية، لكن لا يجوز أن أعاير وطني بعملي التطوعي فهذا واجب علينا جميعاً أبناء الوطن.

وكرَّتْ الأيام  في دوارنها وعدتُ بعد دراسة الماجستير في القاهرة  للوطن، وكنت أذهب لكل الفعاليات الثقافية فرحة بهذه العودة، وبالإنجاز الذي كانت له أهميته وما زالتْ عن الشعر في عصر النباهنة.

وفي إحدى المُناسبات الثقافية لمحتُ الرواس يتابعني بعينيه من بعيد؛ حيث اختلط الحضور في تناول البوفيه بعد انتهاء الفعالية، عندما لمحته كنتُ حريصة على الاختباء خلف أكتاف الحضور مُبتعدة للخلف بقدر المستطاع حتى ظننتُ أنني نجحتُ في الاختفاء وانتهى الأمر، فلما تأكدتُ من يقيني، شعرتُ بيد تربتْ على كتفي من الخلف، التفتُ فوقعتْ عيني بعين معالي الرواس وجهًا لوجه، وكعادتي في كل موقف محرج أواري خجلي بضحكة خفيفة مغلفة بكثير من الحياء، مد يده مُسلمًا مُبتسمًا قائلًا: "طوّلتي الغيبة، وحشتينا، والوطن اشتاق لك"، يا إلهي لماذا كل هذه الحفاوة والترحيب، هل هو اعتذار عن موقف انقضى منذ سنين ومضى؟ وإذا كنتم تريدون الحقيقة، فأنا المُخطِئة بعد أن راجعت نفسي، وكان غضبه يُجسِّد غضب الأب للخطأ والطيش لما يرتكبه الأبناء، خاصة عندما يكون هذا الغضب ممن يُؤمل منه الخير، ولأنَّ كل وسائل الإعلام آنذاك لم تتناول هذا الموضوع، إلّا مجلة "العُمانية" وبقصدٍ مني بصراحة.

بعد هذا الموقف تكرَّر لقائي مع معاليه كثيرًا في مكتبه الأجمل؛ حيث انتقل لمنصب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية. تُرى ما الذي تغير في هذا الإنسان الأنيق شكلًا ومضمونًا ولغةً، كيف أصبحتُ أرى فيه كل إبداع صلالة وجمالها وإدهاش الخالق بحُسنها. كنت أدخل مكتبه  في نقاش لا ينتهي، فاخرج ممتلئة بشتى المعارف عن خور روري، وهو أحد مواقع طريق اللبان الذي سُجِّل في سجل التراث العالمي سنة 2000م، وعن منتزة البليد الأثري، وعن تاريخ صور ومعالمها وقراها الفاتنة المختفية في نياباتها، وفنونها وعلاقاتها العميقة مع مرباط.

أحسستُ بأنه يُعلِّمني كما يعلم الأب بناته بأنَّ الحياة رحبة تتسع باتساع القلوب وتسامحها وأنه كلما اتسعتْ المعرفة كلما تسرب الضياء إليها، أحببته كما أحببتُ ظفار التي وهبته جمالها وسحرها ووقارها وشموخ جبالها، وتجاوبتْ عذوبة روحه مع عذوبة عيونها وشلالاتها، واتضح لي أنَّ طيبته معجونة بسخاء ترابها الدائم الإخضرار، كل من اقترب منه من جيلي شعر بعطفه وحنانه، وتشجيعه وكل من ابتعد كبَّر له الوهم خوفه منه وشدته وصعوبته، وعدم الرغبة في الاقتراب منه، كان دائم النصح لي والتوجيه، يشجعني عند كل خطوة موفقة ويحذرني من الانزلاق فيما لا طائل من ورائه، ومشاكساتي المعروفة، وعندما لا أجد من اشتكي له، أجد نفسي في مكتبه وأراه يضحك مني قائلًا "عنيدة، لا تستمعين للنصيحة أبدًا".

كان أجمل ما فيه محبته الصادقة للسلطان قابوس- رحمه الله وطيَّب ثراه- وولاؤه الشديد له وللوطن، وكان يفرح فرحة غامرة عندما يرانا نُمجِّد عُمان وباني نهضتها، وذات يوم أهديته ديواني الوطني "موشومة تحت الجلد"، اتصل بي بعد ساعة ونصف تقريبًا من استلامه، صارخًا بالفرحة في التلفون: "يا بختك، يا بختك، يا بختك"، وبتعجبٍ كبيرٍ قلتُ: على ماذا؟! قال: تستطيعين أن تُعبري عن محبتك للسلطان وللوطن بكلمات راقية بسيطة، وغيرك لا يستطيع للأسف. قلتُ: غيري لا يحتاج لهذا؛ فحبه لعُمان معروف ومُؤكد (وكنت أقصده بالطبع). رحم الله معاليه، لم أرَ في مسيرتي الوطنية العريضة من يضع السلطان قابوس وعُمان في حدقتيه ويُسبل عليهما أجفانه كما يفعل هو صدقًا وحبًا، لا مجاملة ولا تمثيلًا. رحمك الله رحمة واسعة يا مُعلمي القدير، وأبي، وناصحي، وأستاذي الجليل.

تعليق عبر الفيس بوك