د. محمد بن عوض المشيخي **
الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإعلاميين من البشر هو موضوع هذا المقال في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة والمتمثلة في الانفجار المعرفي الهائل، وما صاحبه من تطورات مُلفتة؛ حيث الآلات والروبوتات التي تحاكي العقل البشري وتُبرمَج من خلال تطبيقات ذكية مُتقدمة مثل "شات جي بي تي، وجوجل جيمني"، وغيرها من التطبيقات، التي تعمل من خلال الخوارزميات المتقدمة كبديل عن البشر.
وقد تمكَّن الذكاء الصناعي ولأول مرة، من التعرف على توجهات الرأي العام والمضامين الإعلامية المفضلة لدى المستقبلين والمتفاعلين مع مختلف الفنون الصحفية المنشورة عبر المواقع المختلفة في شبكة الإنترنت، وخاصة الهواتف الذكية التي أصبحت القوة الضاربة والجسر الذي يعبر من خلاله الجميع للحصول على المعلومات التي تهم أكبر عدد من الناس في هذا الكوكب. ثم يتبع ذلك بخطوة أخرى تقوم بها تلك التطبيقات تلقائيًا (أوتوماتيكيًا) من خلال تثبيت المواضيع الأكثر رواجًا بين الجماهير وتكرارها على الدوام في هذا الميدان المثير للجدل.
وقد نجح إلى حد ما في قلب موازين القوى لصالح الذكاء الاصطناعي على حساب العنصر البشري، على الرغم مما يتميز به العقل البشري من مزايا وخصائص يفتقد إليها هذا الذكاء المبرمج؛ إذ إن الفكر المُبدع والمرونة والذوق الرفيع وفهم البيئة المحيطة بالمجتمع وأمانة الكلمة والصدق والالتزام بالبُعد الأخلاقي في إنتاج المعلومات ونشرها، وأهم من ذلك العواطف والمشاعر الإنسانية الصادقة؛، كلها بالطبع صفات خاصة وأصيلة ارتبطت بالإنسان، ولا نصيب للأجهزة الحاسوبية والروبوتات والتطبيقات الذكية فيها. وعلى الرغم من ذلك نجد أنَّ صحيفة "الجارديان" البريطانية قد نشرت أول مقال افتتاحي مُولَّد بالكامل عن طريق الذكاء الاصطناعي، بينما تعتمد وكالة "بلومبرج" المُتخصصة في الأخبار الاقتصادية والسياسية على روبوتات في جمع وإنتاج ثُلث أخبارها، وذلك بدلًا من الصحفيين الذين استغنت عن عدد كبير منهم!
وانتشرت ظاهرة المذيعات الافتراضيات باستخدام الذكاء الاصطناعي في شبكة الجزيرة؛ إذ تقدم الروبوت "ابتكار" الأخبار، بينما تقدم زميلتها "نورا" البرامج الحوارية، وظهرت في الكويت المذيعتان "فضة" و"نوف".
وهكذا دخل الذكاء الاصطناعي في كل القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والتعليمية والثقافية والإعلامية؛ مما ترتب على ذلك الخوف من تفوق هذا النوع من الذكاء الذي في الأساس هو من صنع الإنسان وأصبح حديث الساعة؛ وذلك لأهمية التطبيقات والآلات التي أفرزتها هذه الصناعة الذكية والمُتقدِّمة والتي أصبحت تشكل خطرًا داهمًا ووجوديًا على البشرية جمعاء لا تقل تداعياتها عن الحروب النووية. لما لا، وقد أصبح خطاب الكراهية بين الأمم والشعوب هو الصوت البارز عبر منصات الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي. وكما قيل في سابق الأزمان حول هذا الموضوع إن "الفتنة أشد من القتل".
ويعود هذا الفتح العلمي الكبير إلى منتصف القرن الماضي، عندما وضعت كوكبة من المخترعين من بريطانيا وأمريكا البدايات الأولى لما يُعرف اليوم بالذكاء الاصطناعي، أمثال جون مكارثي ومينسكي، لكن لم يخطر على بال هؤلاء الباحثين أن نتائج تلك البحوث ستنعطف بالبشرية إلى هذا المستوى من الإمكانيات والتحديات في نفس الوقت. ويُعرف الذكاء الاصطناعي بأنه "فرع من علوم الكمبيوتر معني بإنشاء آلات ذكية تحاكي القدرات البشرية، مثل التعلم والفهم والتفكير وحل المشكلات. وتعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي على خوارزميات معقدة قادرة على تحليل البيانات واستخلاص المعلومات واتخاذ القرارات".
ويمثل الإعلام وما يحمله من مضامين عبر شبكة الإنترنت واحدًا من أبرز المجالات التي دخلت بقوة في الذكاء الاصطناعي؛ فهناك اليوم بعض المؤسسات الإعلامية تُوظِّف هذه التقنية على نطاق واسع في مختلف الفنون الصحفية والإعلامية، مثل: جمع الأخبار وتحريرها ثم تقديمها عبر المنصات، وكذلك تحليل الكم الهائل من المعلومات وتصنيفها وإعدادها للنشر. كما إن هناك عمليات ترجمة على نطاق واسع من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الأم والعكس، وتتميز هذه العمليات التي تعتمد على سرعة توليد المضمون الإعلامي باختصار الوقت وقلة التكلفة، لكنها في نفس الوقت تفتقد إلى الحقيقة لكونها مُجمَّعة من عدة مصادر، وتعتمد على الخوارزميات وتحليلات الذكاء الاصطناعي التي لا تصيب دائمًا. كما أصبحت بعض الصحف تنشر مقالات مجهولة يتم توليدها بالكامل من الذكاء الاصطناعي، وتخضع لعمليات الذكاء الاصطناعي التي تُولِّد مضامين متنوعة الأفكار مصدرها البحث في محركات المواقع مثل جوجل ومايكروسوفت.
السؤال المطروح الآن: ما التحديات والفرص المتاحة للإعلام العُماني وسط هذا السباق نحو الاستفادة من هذه التقنية؟
يبدو لي أنَّ الإعلام العربي بوجه عام، والعُماني خاصة، لم يتمكن حتى الآن من فك رموز خوارزميات الذكاء الاصطناعي، أو امتلاك واستيعاب طبيعة عمل الحواسيب والروبوتات المعروفة علميا بـ"الهارد وير" وكذلك توطين التطبيقات الخاصة بهذه التقنية المعقدة والمعروفة بـ"السوفت وير"، من أجل تطوير واستخدام المحتوى الإعلامي المُولَّد بالكامل من هذه التكنولوجيا الواعدة. وهناك أسباب تتعلق بالتحديات التكنولوجية والمتمثلة بالمشرفين الفنيين أو الخبراء، وكذلك غياب الموازنات المالية المخصصة للولوج إلى عالم الذكاء الاصطناعي. والأهم من ذلك كله الخوف أن تتولى الروبوتات والتطبيقات القيام بالأعمال اليومية للصحفيين والإعلاميين في تلك المؤسسات التي تُعاني من شح في الموارد؛ بهدف التوفير وتقليل المصاريف التي تُدفع كرواتب للعاملين في هذا الحقل.
صحيحٌ أننا في سلطنة عُمان ما زلنا في البداية وعهدنا بهذه التقنية جديد، وفي المراحل الأولى ولكن استطاعت منصة "عين" الحكومية مثلًا استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي بهدف التعرُّف على تفضيلات الجمهور المُتابِع للمضامين المعروضة. كما يتم استخدام بعض التطبيقات في المجال الإعلامي لترجمة النصوص وتحريرها وتصحيحها لغويًا، وكذلك وضع وصف توليدي للصور التي تُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع تقديم إجابات مفصلة واقتراحات للمواضيع المطروحة عبر شبكة الإنترنت. كما إن صحيفة "عُمان أوبزرفر" الحكومية الناطقة باللغة الإنجليزية فقد أدخلت مؤخرا تطبيق "ChatGPT" لتحرير وتصحيح الأخبار، مع استخدام الأصوات في قراءة الأخبار، بالاشتراك مع جريدة عُمان، فضلًا عن استخدام بعض البرامج في إنتاج صور بالذكاء الاصطناعي. أما إذاعة الوصال الخاصة فقد أدخلت تطبيقات تحويل الكلام إلى صوت وكلمات، كذلك استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي للتصحيح اللغوي، فضلاً عن استخدام "ChatGPT" في مجالي الإعداد والتقديم.
وفي الختام.. هناك اعتقاد على نطاق واسع بأنَّ أدوات الذكاء الاصطناعي لا يُمكن أن تكون بديلًا للبشر في المجال الفكري المُتعلِّق بالإنتاج الفكري، مهما تقدمت هذه التكنولوجيا التي تمشي بخطوات متسارعة نحو اللامعلوم، لكن في كل الأحوال فإنَّ الآمال معقودة بأن تكون العلاقة بين العنصر البشري والمتمثل في الإعلاميين والصحفيين وبين الآلات الذكية، هي علاقة تكاملية تُبقي على الوظائف الإنسانية من جانب، وتُطوِّر العمل الصحفي من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات المطلوبة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري