تأرجح الاقتصاد والرهان السياسي

 

فاطمة الحارثية

 

تمتلك بعض الدول مقومات البقاء، وتجاوز الأزمات المتعددة والمتتابعة، لكن هذا لا ينفي أثر تلك النكبات والانتكاسات على وضعها الاقتصادي، واستقراره على المدى الطويل، وأيضاً لنضع في عين الاعتبار التباين الزمني الذي تتطلبه تلك الدول للتعافي، والوقوف من جديد؛ لا ننكر أن لمواردها وطاقاتها البشرية وكفاءة أنظمتها الأساسية، دورًا فاعلًا في سرعة التعافي، ونضيف إلى ذلك العلاقات الدبلوماسية التي صنعتها وشكلتها مع دول الجوار وعملاء الأسواق العالمية، وحافظت عليها بشفافية وصدق وإخلاص، عاملًا إيجابيًا مُساعدًا.

وفي ثنايا ذلك، إن نظرنا للعوامل العامة الأخرى التي تؤثر جذريا على تعافي الأوضاع الاقتصادية، لا استطيع أن أجزم أنها تعتمد على حالة الاقتصاد العالمي فقط، وهذا يفتح لنا تساؤلات لقراءة مهارات الاستشراف وقياس المنافع وصفقات الربحية المشتركة، وبناء السيناريوهات المقنعة، والمؤثرة قبل - للوقاية وتقليل الخسائر-، وأثناء - للسيطرة وتسير الأعمال-، وبعد -لسرعة التعافي والتعويض- تلك الأوضاع والاضطرابات، وهذا يملي علينا التمعن في عمليات استقطاب المواهب والتوظيف والتدريب، والتحقق من أصالة وقيم ومواهب القائمين على تلك المنشآت والمؤسسات، وقدراتهم التي صقلتها طرق وسُبل منابر التعلم ومستوى التأقلم والاستجابة لديهم.  الجميع يبحث عن البقاء لكن الصراع الفردي لا يؤدي إلّا إلى السقوط آجلا أم عاجلا، ومفهوم "الشراكة" واستراتيجيته يلعب دورا هاما في قوة الصمود من هشاشته، ويُعزز ابتكار الحلول الذكية، بغض النظر عن الوقت اللازم لقراءة عوائد تلك الحلول وظهور النتائج الملموسة، والشراكة سلوك إيجابي يقود إلى مرونة المؤسسة وتأقلمها مع المتغيرات والطفرات الاقتصادية.

أما الحلول السريعة، والخالية من المنفعة المشتركة مثل، تقليص المنافع العامة أو مضاعفة الإنتاج رغم ضعف الطلب، أو تقليص نفقات الإنتاج مما يُؤثر على الجودة، أو ما يفعله الغالب من المسؤولين عندما يلجؤون إلى تسريح العمال كحل أولي لتقليل النفقات؛ وإن دلت مثل هذه الحلول والإجراءات على شيء؛ فهو افتقار تلك المؤسسات إلى الكفاءات والمؤثرين، والقيادة الحكيمة، ولا نستطيع أن نلومهم في ذلك، فالعلاقة الطردية بين الموظفين وقوة الأداء وجودة الإنتاج، وبين نجاح المؤسسة وصمودها أمام تأرجح الأسواق أمرٌ يحتاج إلى قياس وصبر لا يمتلكهما الكثيرون، وقد نتفق أن فشل المؤسسة يعكس فشل العاملين عليها وفيها، وخاصة الشركات والمؤسسات التي تقدم الخدمات الأساسية للمجتمعات.

قررنا أن إنعاش العرض والطلب، يتأثر بالوضع السياسي، وتمسكنا بهذا العذر طويلا، رغم علمنا وجزمنا بأن المسيطر الحقيقي هو "الحاجة"، وحنكة العرض في خلق الطلب وربطه بالحاجة، وإدراك ذلك ليس عسيرا على الموظف المُخلص والمجتهد، لكنه أمرٌ لا يفهمه موظف البصمة ولا مسؤول الكراسي، وإنني على يقين، أنه لا توجد مؤسسة أو شركة قائمة، على أرضنا الطيبة لم تُشيد إلا على أساس النفع العام سواء المادي أو المجتمعي، وسقوطها أو خسارتها هو إخفاق في كفاءة التشغيل، وإدارة العمل والإخلاص في الجُهد. نحن نمتلك الخبرات، والقدرات، وتنميتها المستمرة لتواكب العصر ليس صعبًا ولا عائقًا، لكن يبقى الأمر محصورا، بوضع الشخص المُناسب أو صناعة الفريق المناسب للمهام المناسبة، واستثمار خبرات المؤسسات في صناعة سياسات المرونة، والمبادرات الذكية، التي تستطيع مواجهة تقلبات الاقتصاد، ويكتمل المثلث بتفاني وإخلاص ووعي الموظفين، وهذا الإجراء بات أمرًا لا مناص منه ولم يعُد ثمَّة داع لتأجيله أو حصره لدى جهات دون أخرى، لرفع مستوى ثقافة الأفراد والمؤسسات واستدامة عوائد أهدافها وطموحها التنافسي والمؤسسي، أما الإدارة التقليدية "نفذ أنا أعلم" أو سياسية "اعمل بهدوء لا تلفت الأنظار" لم تعد تُجدي ولا تُثمر؛ والاختناق تحت كثرة المظلات "الوصاية" يُؤخر عجلة النمو، ويؤرق صناعة القرار، أكثر منه حماية أو فرض السيطرة على المؤسسات والشركات، وإن لم تظهر هذه المخاطر اليوم سنرى وقعها على المدى المتوسط والطويل، مما سيُرهق تلك المظلات والشركات والمؤسسات، وقد تُهمش أمام ميادين السوق وتفوت فُرص اقتناص الصفقات والمُعاملات التجارية، والظهور.

تعزيز ثقافة الاستدامة، والتنمية المُستمرة، والوعي بالنظام المحيط بالمؤسسة والمؤثرات الداخلية والخارجية (الأوساط المسؤولة)، يصنع للمؤسسات والشركات ركائز المرونة والتأقلم، مما يُسهل عليها سرعة الاستجابة للمتغيرات، ومواجهتها كأحداث طبيعية، بل وقد تتحول إلى فرص تُعزز من العوائد والأرباح والعلاقات. ولنعي أن الأمان المؤسسي يأتي مع الأمان الوظيفي ويعتمدان على بعضهما البعض، فلا بقاء لأحدهما دون الآخر.

وإن طال...

كل ما يُحيط بنا علم، قد ننتفع به إذا أدركناه، وقد يُغرر بنا إذا أهملناه، ولن نعلم ما لم نُقدر الاختلاف والتميز الكامن فيما بيننا، أكان في الفهم أو الاستيعاب أو سرعة الاستجابة أو غيرها من الصفات والمواهب. فلنكف عن التناسخ والسعي نحو التشابه، ولنستعن ببعضنا البعض فربما خيره.