الاقتصاد الصيني في زمن الاضطراب العالمي مصدر مهم للاستقرار والثقة

 

ليانغ سوو لي - إعلامية صينية

في ظل الركود الاقتصادي العالمي، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، وتنامي النزعة الحمائية، يشهد الاقتصاد الصيني تحوّلًا عميقًا في نموذج نموه. ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني في 9 يوليو الجاري، أوضح يوان دا، الأمين العام للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، أن الاقتصاد الصيني انتقل من الاعتماد التقليدي على الاستثمار والصادرات، إلى مرحلة جديدة من التنمية عالية الجودة يقودها الطلب المحلي ويعززها الابتكار.

ورغم التحديات الخارجية المعقدة التي واجهتها الصين خلال فترة "الخطة الخمسية الرابعة عشرة" (2021-2025)، حافظ الاقتصاد الصيني على متوسط نمو سنوي قدره 5.5%، وساهم بنحو 30% من نمو الاقتصاد العالمي، وهي مساهمة مستقرة وملحوظة. ويُعد الطلب المحلي المحرك الأساسي لهذا النمو، إذ بلغت مساهمته في معدل النمو خلال السنوات الأربع الماضية نحو 86.4%، فيما ساهم الاستهلاك بنسبة 56.2%، بزيادة 8.6 نقطة مئوية مقارنة بـ"الخطة الخمسية الثالثة عشرة"، ما يؤكد تصاعد دور السوق المحلية كمحرّك رئيسي للنمو الاقتصادي.

ولم يكن هذا النمو الاستهلاكي تقليديًا، بل ارتبط بظهور أنماط جديدة تعكس تغيّر أولويات المستهلك، مثل الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، والمنتجات الثقافية ذات الطابع الصيني المعاصر، مما ساعد في إطلاق موجة من التحديث داخل سلاسل التوريد الصناعية. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد محطات شحن السيارات الكهربائية في الصين بنهاية عام 2024 نحو 12.81 مليون محطة، مما مهّد الطريق أمام التوسع الكبير في استخدام هذه السيارات.

وبشكل موازٍ، شهد هيكل الاستثمار في الصين تطورًا نوعيًا، إذ بات الابتكار يشكل محورًا رئيسيًا للاستثمار طويل الأمد. ففي عام 2024، بلغ إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير نحو 3.6 تريليون يوان صيني (حوالي 503.67 مليار دولار أمريكي)، أي ما يمثل 2.68% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ثاني أعلى معدل عالميًا. وبلغت مساهمة الشركات في هذا الإنفاق أكثر من 77%. في الوقت نفسه، تم تكثيف الاستثمار في قطاعات متعلقة بمعيشة المواطنين، حيث أُنشئت 7.8 مليون وحدة سكنية ميسّرة، وتم توفير 5.74 مليون سرير في مرافق رعاية الأطفال وكبار السن، ما ساهم في تعزيز الثقة المجتمعية وتنشيط الطلب المحلي.

الأهم من ذلك أن الصين تمكنت من بناء حلقة تفاعل إيجابية بين الاستهلاك والاستثمار، إذ أدى نمو الطلب الاستهلاكي إلى زيادة الاستثمار في مجالات حيوية مثل شبكات الجيل الخامس، التي سجلت نموًا سنويًا متوسطًا بنسبة 21.9%، وصناعة معدات الاتصالات التي نمت بنسبة 11.2%. وفي المقابل، ساهمت التحسينات في البنية التحتية وتنامي فرص العمل في تعزيز القوة الشرائية، مما أسهم في توازن واستدامة النظام المحلي للطلب.

أما على مستوى "معدل النمو المحتمل"، فقد ابتعدت الصين عن التركيز على المؤشرات الكمية البحتة، ولكن أصبحت تركز على الموازنة بين الجودة والاستدامة والمرونة. فأصبحت قطاعات الاقتصاد الرقمي، والتكنولوجيا المتقدمة، والصناعات الناشئة تشكل محركات جديدة للنمو. وارتفعت القيمة المضافة للصناعات التحويلية عالية التقنية بنسبة 42% مقارنة بنهاية "الخطة الخمسية الثالثة عشرة"، فيما بلغت مساهمة الاقتصاد الرقمي نحو 10.4% من الناتج المحلي الإجمالي.

ويتجاوز تأثير هذا التحول داخل الصين، إذ تقدّم الصين نموذجًا اقتصاديًا مستقرًا وقابلًا للتنبؤ في وقت يعاني فيه العالم من ارتفاع التضخم واضطرابات سلاسل التوريد. فمنذ عام 2021 وحتى مايو 2025، تجاوزت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين 4.7 تريليون يوان صيني (حوالي 657.57 مليار دولار أمريكي)، متفوقة على إجمالي الاستثمارات في فترة "الخطة الخمسية الثالثة عشرة"، مع تزايد واضح في الاستثمارات الموجهة للتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، مما يدل على الاعتراف العالي من قبل رؤوس الأموال العالمية لإمكانات السوق الصينية وبيئة الابتكار فيها.

ورغم تركيزها على تحفيز السوق المحلي، لم تغلق الصين أبوابها، بل واصلت توسيع انفتاحها المؤسسي، وعززت شراكاتها في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة، والبنية التحتية الذكية، والتحول الرقمي، ما يفتح آفاقًا واسعة للتعاون مع الدول النامية والناشئة.

كما شدد يوان دا على أن السوق الصينية الضخمة والغنية بالإمكانات ليست فقط ركيزة للنمو المحلي، بل تشكل أيضًا محركًا مهمًا للنمو الاقتصادي العالمي في المدى المتوسط والطويل.

وفي ظل استمرار تقدم الإصلاحات الاقتصادية، والمكتسبات الكبيرة التي تحققت خلال "الخطة الخمسية الرابعة عشرة"، تواصل الصين السير بثبات نحو ترسيخ نموذجها التنموي القائم على التوازن والاستدامة، مقدّمة للعالم بديلًا واقعيًا في ظل الاضطرابات العالمية.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة