هل ترد طهران الصاع صاعين؟!

 

د. محمد بن عوض المشيخي

كان ليل طهران الطويل المُلبَّد بالغيوم والدخان المنبعث من بيوت ضيافة تنصيب رئيس الجمهورية قبيل فجر الأربعاء استثنائيًا بكل المقاييس؛ بل ربما نصفه بالكارثي للدولة الإيرانية قاطبة، لم لا وقد خسرت الأمة الإسلامية واحدًا من رجالها الشرفاء الذي لم يركع يومًا إلا لله على الرغم من الإغراءات الكثيرة والتحديات التي واجهت هذا الرمز الكبير إنه الشهيد إسماعيل هنية، الذي ترأس أول حكومة فلسطينية مُنتخَبة من الشعب وقاد مسيرة النضال الفلسطيني عبر العقود الماضية، ولعل "طوفان الأقصى" من أهم الإنجازات أو الانتصارات التي حققتها الأمة بفضل من الله والمقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس التي كان يتولى رئاسة مكتبها السياسي هذا القائد الشجاع الذي يشار له بالبنان.

كم هي صعبة هذه الحياة عندما تتعرض لتكالب الأعداء وخذلان الأشقاء، خاصةً عند يكتب لك الله أن تتحمل مسؤولية كبيرة تعجزعن حملها الجبال الشامخة والمتمثلة في الدفاع عن المقدسات الإسلامية التي تُدنس يوميًا من الصهاينة المتطرفين؛ فالمسجد الأقصى وقُدسها الشريف كانا أمانة في عنق هذا القائد الإسلامي الذي يفتخر فيه كل إنسان مسلم في هذا العالم، فكان هنية طوال حياته الجهادية يعيش في غرفة صغيرة مع أسرته التي تتجاوز 8 أفراد. فلم يفكر يومًا بالقصور أو جمع الأموال، فكان حلمه وغايته تحرير فلسطين من البحر إلى النهر؛ أي كل فلسطين؛ فهو رجل عصامي؛ بما تحمله هذه الكلمة من معنى. فقد عاش الشهيد إسماعيل هنية في مخيم الشاطئ للاجيئن بعد أن لجأ والده إلى غزة في أعقاب نكبة 1948؛ إذ كانت عائلة  هنية من مدينة عسقلان الفلسطينية التي احتلها الكيان الغاصب الذي زرعته الدول الاستعمارية الغربية في قلب الوطن العربي. ومنذ الطفولة المبكرة في المخيم، أدرك هنية معاناة المجتمع الفلسطيني الذي يتعرض للذل والهوان من المستعمر؛ فكانت دراسته في مدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة، ثم واصل دراسته الجامعية على الرغم من الصعوبات والعراقيل الكثيرة التي تواجه أبناء فلسطين. وبمجرد دخوله الجامعة انضم للمقاومة الفلسطينية في البداية ثم التحق في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بحركة حماس ذات التوجه الإسلامي؛ إذ كانت- قبل ذلك- معظم حركات النضال الفلسطيني ذات اتجاه قومي أو يساري باستثناء حماس التي أسسها شيخ المجاهدين أحمد ياسين الذي هو أيضاً كان شهيدًا على الرغم من إعقاته وتم اغتياله على كرسي متحرك.

تابعتُ عبر منصات التواصل الاجتماعي كلمة إحدى زوجات أبناء هنية واسمها إيناس؛ فكانت مفرداتها مؤثرة ومعبرة عن المسيرة النضالية المشرفة لهذا الرجل العظيم الذي تمنى الشهادة منذ سنوات طويلة، فقد أبكت كلمات إيناس كل من شاهدها وهي تذرف الدموع على خدها. وبالفعل تحقق لإسماعيل هنية ما يريده هذه المرة في طهران؛ إذ كان في ضيافة الحرس الثوري الإيراني في سكن يُعرف بالمحاربين القدمى؛ وذلك بعد يوم واحد من مشاركته مع العديد من المسؤولين حول العالم في تنصيب الرئيس الإيراني الجديد.

لا شك أن استهداف هنية بصاروخ موجه في غرفته بعد منتصف الليل يحمل بصمة إسرائيل وعملائها في المنطقة، لكنه في نفس الوقت اختراق لأجهزة الأمن الإيرانية التي تدرك جيدًا أن رئيس المكتب السياسي يُعتبر المطلوب رقم واحد لدى الموساد والشاباك والحكومة الإسرائيلية منذ 7 من أكتوبر الماضي. فهل يُعقل أن الحرس الثوري- الذي يعد واحدًا من أفضل الأجهزة الأمنية في العالم- يهمل ويتغافل الاحتياطات والإجراءات المتبعة لتأمين سلامة هذه القامة الجهادية التي سبق أن هددت إسرائيل بتصفيتها، ثم يغض النظر عن هذا الاستهداف الجبان على الأراضي الإيرانية، لكون أن الشهيد أتى بدعوة رسمية من الحكومة؟ لماذا فشلت الأجهزة الأمنية الإيرانية مجتمعة في توفير الحماية لضيف إيران والمجاهد الأكبر لقضية الأمة؟      

السؤال المطروح: ماذا ستفعل إيران للرد على هذه الجريمة النكراء؟

هناك أكثر من سيناريو لذلك الرد إن حدث، ويتمثل الأول- وهو الأقرب للواقع- في استهداف المطارات والمدن الإسرائيلية وتدمير قواعد عسكرية صهيوينة في الأراضي المحتلة في فلسطين، وكذلك فتح جبهات عديدة بداية بالجولان السورية التي لم يُطلق منها رصاصة واحدة منذ حرب أكتوبر 1973، لا من الحكومة السورية ولا أيضًا من الإيرانيين الذين دعموا حكومة دمشق خلال العقد الماضي، كما يُتوقع أيضًا فتح جبهة جنوب لبنان، والزحف على الجليل الأعلى والمستعمرات الحدودية، وذلك من خلال "حزب الله" الذي يمتلك أسحلة متطورة ومقاتلين أشداء على الأرض وتخشاهم إسرائيل بشدة، لكونهم أجبروا الجيش الإسرائيلي على الهروب ليلًا من جنوب لبنان عام 2000 بفضل العمليات الاستشهادية للمقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله؛ فالمجاهدون في حزب الله يحبون الشهادة في سبيل الله مثل ما يقدس الجنود الصهاينة الحياة، وهذا الذي أرهب إسرائيل ومنعها من تقدم جيشها نحو احتلال الأراضي اللبنانية طوال عشرة أشهر مضت. كما إن اغتيال القيادي في "حزب الله" فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، قد جعل الانتقام من إسرائيل قاب قوسين أو أدنى أكثر من أي وقت مضى.

أما السيناريو الثاني فقد يكون تكرار لما توعدت به إيران بعدما استهدفت المقاتلات الإسرائيلية سفارتها في دمشق وقتل العديد من قادتها الكبار في المبنى الذي يحمل الصفة والحصانة الدبلوماسية، وكذلك اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بصاروخ أمريكي في مطار بغداد؛ فلم يسقط قتيل واحد في هذه الردود.

في الختام.. يجب أن يدرك الصهاينة أن اغتيالهم لإسماهيل هنية لن يضعف المقاومة ولا يُغير من الأمر شيئًا؛، بل سيظهر قائدٌ جديدٌ لحماس سيكون أكثر صلابة ورغبة في الاستشهاد في سبيل الله، من أجل تحرير الأرض وتطهير الأقصى من العصابات الإجرامية بقيادة بن غفير ونتنياهو.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري