معاوية الرواحي
فكرة الكلام والرقابة على ما يُقال وما يُكتب ليست فكرة جديدة. منذ الأزل، والمجتمعات والدول والأديان والمذاهب، بل وحتى المؤسسات الصغيرة والكبيرة، كلها لديها ضوابط تُحدِّد ماهية المسموح والممنوع من الكلام. قد يحدث ذلك على هيئة نظام يُحدِّد هُوية شركة، أو متحدث رسمي باسم منظمة سياسية، أو مواطن في دولة. إطلاق الكلام على مصراعيه كمرتكز فلسفي نظري ليس أكثر من رومانسية مستحيلة في هذا العالم، والنسبية والتناسب في المسموح من الكلام والأفكار والممنوع منها هو ما يُميز التجمعات السكانية في هذا العالم لكي نخرجُ ونقول هُنا تتحقق حرية التعبير، وهنا لا تتحقق حرية التعبير، ومنها نشتق مصطلحاتنا التي تصف واقع الحال، هذا قمع، هنا حرية، وهكذا دواليك. لسبب ما ثمَّة قانون يضبط المسموح من الكلام، ولست بصدد تفنيد ذلك من فرط ما كتب فيه الكثير.
شهدتْ ساحات التعبير عن الرأي في عُمان تحسُّنا هائلا في آخر أربعة أعوام، تغيرت خارطة الكلام واكتسبت شعوراً حقيقيا بالثقة، وضبط قانون الجزاء العُماني، وقانون الجرائم الإلكترونية الوضع العام في الكتابة العمومية بشكل واضح. طمأنينة تجاه التعبير في الرأي صنعت علاقةً من الثقة في التعبير عن الرأي المكفول بنص صريح في النظام الأساسي للدولة. ليت هذا الكلام ينطبق على ما يحدث في الرقابة الإعلامية، ولا على ما يفعله الرقيب الإعلامي في مناطق صلاحياته! وأيضا لست بصدد تفنيد مزاجية، أو تناقض الرقيب الإعلامي، فقد قيل ما قيل في مقارباته، ويكفي أنَّ سقف القانون أعلى بكثير من سقف الرقيب الإعلامي المزاجي، والمتناقض، وفي الوقت نفسه الذي لا يمشي على منطق واضح.
ثمَّة جدال يتخلَّق في الساحة العُمانية تجاهَ الساحة الرقمية وتأثيرها في المحيط الإعلامي والثقافي، جدالٌ متعدد الأبعاد. ثمَّة روح من التأجيج، والتأليب على ما يسمى بظاهرة المشاهير، وفي الوقت نفسه ثمَّة روح أخرى مندسة تستهدف المثقفين، وتحدد قائمة مرتجلة للمثقف الجيد، قائمة أخرى لمن يسمى "المثقف السيء" سلوكٌ لا أعرف من الذي يقوده أو يوجهه، ولا أعرف إن كان يتخلق تلقائيا ضمن مساحات التعبير العفوية، أم أنَّ أجندةً ما إعلامية أو غير إعلامية تقود هذا التوجه بتقصد تام.
يدُور هذا الجدال حول الرأي العام العُماني، وما الذي يحدث في هذا الرأي العام؟ إنه في مجمله الكبير رقمي، يحدث في المؤسسات التعويضية التي اكتسبت أهمية من انجذاب الناس لها نتيجة التقصير المؤسسي في صناعة المنتج الإعلامي والثقافي الذي يروي ظمأ الجموع الهائلة لمنتج إعلامي يحترم عقل المتلقى، ويحترم صناعة الإعلام الذي ينشر الحقيقة، ويتفاعل مع الناس وهمومها. حكايةٌ ينطبق عليها وصف "المعلوم من عُمان بالضرورة"، والجدال مشتدُّ ومحتد بين الذين ينادون بتمكين الرقيب الإعلامي لتمتد أطراف مقصِّه الحادة حتى إلى المنصات الرقمية، والطرف الآخر الذي يقول إنَّ المساحات الفردية تبقى فردية، وأن حلول الرقيب عليها يعني بالضرورة عدم تحول أي مشروع فردي إلى مؤسسة لها ضوابط؛ وبالتالي فإن هذا ما سيصنع عائقا يؤدي لبقاء صاحب المنصة الرقمي عالقا في دائرة لا نهاية لها من الإنتاج الشخصي، بلغة أوضح سيتم عرقلته وبالتالي هذه النية التي يزعمها البعض أنه جاء من أجل الضبط النوعي ستتحول إلى نتيجة أخرى معاكسة.
ثمَّة رقيبٌ فكري يتخلَّق في الساحة العُمانية، رقيب ضارٌ بمعنى الكلمة، وهذا ليس مثل الرقيب المؤسسي الذي لديه توجُّه واضح. مختصر هذا الرقيب هو "أنت لا تعجبني.. اسكت!" بهذه البساطة البالغة! وقد أثبتت مجموعة من الأحداث التي أثارت انتباه الرأي العام أنَّ عامل التأثر الشخصي بفلانٍ أو علَّان أصبح من المُعطيات التي يبني عليها هذا الرقيب المرتجل حكمه على من الذي يستحق الكلام، ومن الذي لا يستحق الكلام. النتيجة الحتمية لهذا السلوك الضار هي قيام مجموعة غامضة من الأسماء المستعارة بالتنمر على أشخاص يتم انتقاؤهم بين الفينة والأخرى، والمزعج في المسألة هو أن قوانين لها علاقة بالجرائم الإلكترونية تُخالف من قبل هذا القبيل من الأسماء المستعارة التي أصبحت تعيث في الساحة شكلا من أشكال البلطجة والإساءة المعنوية لأصحاب الرأي، علما بأنَّ الرأي هذا الذي لا يعجبهم لم يخالف القانون في شيء.
أنت لا تعجبني! فما الذي أفعله لكي تسكت؟ أسلط عليك مجموعة من الأسماء المستعارة التي تتولى الهجوم عليك وإقلاقك في منصاتك الرقمية! وليت الأمر يقف عند الآراء، يتجاوز الأمر هذا إلى السب، والقذف، والإساءة، بل ومخالفة القانون في حق صاحب رأي لا يعلم من أين جاءه هذا الرقيب المرتجل؟ تصرف يوغر الصدور، ولا عجبَ أن الذي يتعرض له يصل به الحال أحيانا إلى ردات فعل غير محمودة، ما النفع الاجتماعي من وراء ذلك؟ لا أحد يعرف! وكأن تمكيناً لهذه البلطجة الرقمية قد أصبح أداةً من الأدوات التي يظنها البعض نافعة للمجتمع بينما الحقيقة أنها إحدى المعضلات التي تقود إلى خسارة عقول جيدة للغاية ودخولها في معمعة خطابات الغضب، والكراهية، والإساءة المتبادلة، لقد رأينا كيف حدث ذلك في بعض الحالات المذهبية، ونرى كيف يحدث هذا الاختلاف بشكل يومي نتيجة التأليب الذي يقوده البعض سواء ضد من يسمون بالمثقفين، أو من يسمون بالمشاهير، أو من يسمون بالمتدينين، بل والمثير للأسف أن بعض الشركات بدأت تستخدم هذه الآلية أيضا للهجوم على منتجات شركات منافسة! وصفة للفوضى، وما إن تتلقف أيدي الأجيال الجديدة هذا الأداة تتحول إلى ثقافة في التعبير عن الرأي، ويحدث ما يحدث، من هجوم ومن تحريض ومن إقلاق، وتنمر، وإلغاء، وشخصنة!
إنَّ التحايل على حق التعبير عن الرأي شيء يخل بالاحترام الواجب للقانون. الرأي ما دام قانونيا فلا علاقة لصاحبه إن كان يعجبك أو لا يعجبك. الإخراس بالتنمر، والإسكات بالتأليب، والبلطجة بالأسماء المستعارة سلوكٌ قد يبدو الآن عاديا للغاية، ولكن نهاياته وخيمة، ألم يملأ الرقيب الإعلامي الساحة بالأسئلة بسبب تدخلاته الغريبة، وبسبب اندفاعه الآن إلى الساحة الرقمية! وماذا عساه أن يفعل هذا الرقيب الإعلامي في الساحة الرقمية؟ يكرر ما يفعله في الإعلام المؤسسي، وما يفعله بالإعلام المؤسسي؟ بينما تتنظر العقول قانون الإعلام ليضع النقاط على الحروف ينتظر البعض النتيجة النهائية لهذا الجدال. فكيف سيكون هذا القانون القادم؟ لا أحد يعرف، المعلوم من عمان بالضرورة أن القانون ما دام سيصدر فهو في حكم الأمر الواقع، أما الآن فثمة فرصة لإعادة النظر قبل تمكين رقيب عدواني هدفه الهدم يستخدم الانتقائية، إن ما ينتظره الإنسان من القانون هو أن يضمن حقَّه تجاه أي شكل من أشكال التعسف الرسمي، وكل ثقة أن هذا القانون سيحمل في طيَّاته ما يضمن حقوق الجميع، والمؤكد أنه لن يتناقض مع النظام الأساسي للدولة.
شاعتْ في الساحة المحلية فكرة إخراس الذي لا يعجبك، كما شاعت فكرة البلطجة الرقابية على الرأي المخالف للسائد، ظواهر كلها ستقود في النهاية إلى اختلاف اتجاه الغضب، وإلى عشوائية وبعثرة، واختصار تام إلى فوضى يصنعها الذي يظن أنها يريد منعها. العدالة، والحرية المكفولة في حدود القانون تلزمك أن تتقبل الرأي المخالف حتى من الشخص الذي تكرهه، وكلما كان هذا الشخص بغيضا إلى قلبك، ألزمك الإنصاف والاحترام للقانون أن تعطيه حقَّه، لست مطالبا بأن يروق لك كل إنسان، لكنك مطالب بأن تطبق القانون، وأن تتقبل أن العالم هذا متعدد الآراء، وهذا يشمل الرقيب، ويشمل الكاتب الذي عليه أيضا أن يتقبل أن للكلام حدود، قد يتفق مع هذا الشيء، وقد لا يتفق، لكنه مجددا حكم الأمر الواقع الذي على الرقيب والكاتب "أو المبدع بشكل عام" بما في ذلك الإعلامي، والباحث وغيرها من شؤون التعبير بالكلمة وبالصوت وبالصورة بل وحتى بلغة الإشارة. متى ما انتقل الجدال والاختلاف في الآراء من نظرية أنت لا تعجبني فاسكت، إلى (أنت لا تعجبني، أختلف معك) فهذه أول المؤشرات على تخلق ساحة عامَّة صحية، ساحة تستثمر رأس المال الفكري، وتطوره، ساحة ذات نمو، ساحة تتحول عبر السنوات إلى مشاريع ثقافية، وبحثية، وفكرية، وساحة ليست رهناً لمجموعة صغيرة من الناس تمسك بزمامها، أو رهن مجموعة صغيرة من الأشباح والأسماء المستعارة تنفذ أجندات مذهبية، أو هدَّامة، أو عدائية تجاه المجتمع، أو أحيانا تحمل ما تحمله من نفايات التطورات الجديدة في كوكب الغرب الليبرالي وجنونه المستحدث!
الرقابة المحدَّدة بقانون واضح تحفظ حق الجميع، فكما أنَّه من الخطر أن يمارس الرقيب الانتقائية والمزاجية ليصنع جوقات تلائمه وتمالئه وتوهمه أنه وصل إلى أقصى المنجزات الممكنة في الإعلام والوصول الاجتماعي والإقناع للناس، هو أيضا من الخطر أن تكون مهمة الرقابة شخصية وانتقائية وموجهة من قبل مجموعة من الأشباح تستهدف فردا ما بعينه، أو تبدأ بإثارة الغضب والكراهية ضد السلطة، أو ضد مذهب معين، أو ضد مدرسة فكرية، أو ضد مذهب، أو ضد دين، أو ضد فئة اجتماعية، نعم يجب أن يكون هناك قانون يراقب، ولكن لا يجب أن يكون هناك رقيب يضع تحيزاته موضع القانون، حق الكلام مكفول في حدود القانون للذي يعجبنا، والذي لا يعجبنا، ما دام لم يخالف القانون، فهو آمن لكي يقول أي رأي مهما كان سخيفا، أو ضحلا، بل وحتى لو كانت تافها ومليئا بالسطحية، ليست مهمة القانون أن يؤكد التحيزات الشخصية، مهمته أن يحمي الجميع، وأن يكون عادلا، وعلى الرقيب أن يعي ذلك جيدا لكي ينتمي إلى هذا العصر الذي نعيش فيه أجمعين.