ما بعد حادثة الوادي الكبير؟

 

 

◄ نقترح إقامة مركز وطني للدراسات والبحوث الإستراتيجية لإجراء دراسات حول القضايا المتعلقة بالوحدة الوطنية وتحديات سلمية الفكر والمجتمع

 

د. عبدالله باحجاج

بداية.. لابد من الافتخار والاعتزاز باحترافية وسرعة الأجهزة الأمنية والعسكرية في تعاملها مع حادثة الوادي الكبير، والاعتزاز والافتخار نفسه بالإجماع الوطني -نُخَب ومواطنين- على إدانة ورفض الحادث، والتعبير عن ذلك من خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، في ملحمة وطنية مثَّلت قوة ناعمة حيَّرت كل مُراقبي شأننا الداخلي، وجعلت الأشرار الذي كانوا يتربصون بداخلنا يلزمون الصمت القهري؛ لأنهم لن يجدوا أي خاصية من خواص الاستماع لهم، وكانوا سيجابهون بحملة وطنية تكشفهم وتفضح خلفياتهم؛ لذلك فضَّلوا الصمت؛ فالعُمانيون مُتَّحِدون ومتضامنون مع ذاتهم الجماعية وفي قضايا وطنهم الإستراتيجية، وهذا ينبغي أن يكون معلومًا بصورة دائمة وثابتة.

وتساؤل العنوان أعلاه يقودنا لاهتمامات وطنية معينة لتعزيز جبهتنا الداخلية بعد هذا الحادث، في ظل انكشاف بُعدها المحلي التنفيذي، وبالذات طبيعة الفكر الدافع لها الذي بدوره يجعلنا نعيد النظر في تفكيرنا للتحديات والإكراهات من منظور الاستثناء في ظل ذلك الثابت، ولعل ما نلفت الانتباه إليه هو الدعوة لتصويب بعض المفاهيم والمقولات المتعارف عليها كمقولة "محاربة الفكر بالفكر" فلم تعد مُطلَقَة، وإنما ينبغي أن يتزامن معها مفهوم الردع القوي كثنائية متلازمة المسار والتطبيق، فليست كل الأفكار يُمكن أن تحاربها بالأفكار، فهناك أفكار جامدة لا يُمكن التغلغل فيها للتأثير عليها، فهي تستهدف حصد أرواح بريئة لمجرد أنها تختلف مع أفكار الآخر كحادث الوادي الكبير، فكيف تحارب بالفكر؟!

والمتابِع للأفكار قبل الحادث وبعده، سيخرج بأن المنطقة عامة ستدخل في حقبة صراع مع الأفكار مُتعددة الاتجاهات والمصادر؛ لذلك يقتضي الأمر إعادة التفكير بالمخاطر، وهنا تساؤلات وطنية ينبغي أن تطرح أبرزها:

أولاً: كيف نحصن جيلنا الجديد من الأفكار الإقصائية -"داعش" نموذجا- والباطلة -النسوية والإلحاد والمثلية نماذج أخرى؟ ووراءها دول أجنبية ونخب وجماعات أيديولوجية مسلحة تحيط بالمنطقة الخليجية من شمالها وجنوبها.

ثانيا: كيف نُعظم أدوار التنمية الشاملة والتربية والتعليم والأسر في الحصانة الفكرية؟ وهذا التساؤل مُلحٌّ في ضوء التحولات المتسارعة والمقلقة على مختلف الصعد، وفي سياق خصوصية الديموغرافية العمانية الفتية؛ حيث يُشكل الشباب في الفئة العمرية 18-29 ما نسبته 20% من إجمالي العُمانيين، وقد بلغوا في العام 2020 نحو 549،420 شابا؟

ثالثا: ما هو دور النُّخب العمانية السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية في تعزيز استدامة التعايش الفكري والاجتماعي في بلادنا؟ لا نطرح هذا التساؤل لوجود أزمة ينبغي أن تُعالج، وإنما لدواعي التأكيد على مسارات قائمة ورفع درجة الوعي في مناطق معينة.

لا يُمكننا في هذه العجالة أن نُشبع هذه المحاور المهمة بالنقاشات المستحقة، لكننا سنشير إلى بعضها سريعًا رغم أن تلكم التساؤلات تكفي لذاتها؛ لأنها ناطق باحتياجات المصير في مراحله المختلفة؛ فهى تبطن استشرافات متعددة مقبلة بعضها معلوم، والأخرى تحملنا التفكير خارج الصندوق لرسم خارطة بالتحديات المقبلة، والمفارقة في المعلوم وجود نخبة خليجية لا يمكن انتزاع الصفة الحكومية منها، أصدرت قبل الحادث محتوى فكريًّا يمثل رأس الحربة المتقدمة للفتن المعاصرة في المنطقة، وتروج له في منطقة واسعة تشمل كذلك شمال إفريقيا، وهى تعلم أنها تلعب بنيران الفتنة في المجتمعات المسالمة والآمنة، ولا يهمها اللعنة الإلهية المترتبة عليها رغم خلفياتها الدينية والسياسية، بقدر ما هي مُلزمة بتنفيذ أجندات سياسية إقليمية ودولية، ولن تنجح مطلقا، مثلما فشلت في الماضي، ورغم ذلك، ينبغي أن نشدد على التوعية الاجتماعية العامة بالمخاطر المقبلة في ضوء حادثة الوادي الكبير.

قراءتنا لطبيعة الحقبة المقبلة للمنطقة الخليجية على وجه الخصوص أنها تحمل صراعا بين الحق والباطل؛ فلابد أن ننأى ببلادنا عن كل ما يمس وحدتها الوطنية والحيلولة دون السماح للأفكار الضالة والباطلة أن تُدخلنا في مأزق الطائفية والعنصرية والمذهبية والصراعات الاجتماعية. ومن هنا، فإنَّ ما طرحناه من تساؤلات سابقة يُمثِّل الوعي السياسي بتلكم التحديات والإكراهات المقبلة، ومواجهتها تتم من خلالها؛ فمثلا عندما نفتح نافذة سريعة عن دور النخب العمانية فإننا ينبغي أن نستحضر هنا أسباب انهيارات سلم الأمن الفكري والاجتماعي لبعض الدول؛ حيث كان نتيجة ما يكتب في إعلامها وخطب علمائها أو ما يصرح به مسؤولوها في وسائل الاعلام، الخطابات كلها تكون جدالا وسجالا؛ لأنها تدافع عن المصالح الفئوية وانتماءاتها المذهبية الضيقة غير عابئة بمصالح بلدانها ووحدة أوطانها وأمن شعوبها.

وكان من نتاج كل ذلك صناعة مجتمعات مملؤة بالكره والتباغض، وموسومة بشيطنة الآخر وعدم الاعتراف بحقه داخل الوطن الواحد، ولله الحمد هذه الممارسات لا تعرفها بلادنا، لكننا نذكِّر بها كل نُخبنا، ولماذا هم؟ لأنهم يملكون الوعي بالواقع، ويرون ما لا يرى غيرهم، ولأنهم قادة الرأي في المجتمع؛ لذلك هم ملزمون بالحفاظ على الوحدة الوطنية في سلمها المشترك وأمنها الفكري المتعدد، وملزمون بصناعة الوعي بأهمية نعمة الامن والأمان، وملزمون بالتبصير بسد مآلات المسارات والخيارات التي قد تؤثر على سيكولوجية الجيل الجديد الفتي.

وينبغي التأكيد على أنَّ ضمانة المسير الآمن تقوم على ركنيين أساسيين؛ هما: التنمية المستدامة واستيعابها لتطلعات الديموغرافية الوطنية؛ فلا ينبغي أن نسمح للأفكار الضالة والباطلة أن تستغل الظروف الاجتماعية والاقتصادية، والآخر التربية والتعليم، فينبغي تحصينها حتى لا يتأثر الجيل الجديد بالأفكار الضالة والباطلة، وتأثره متعدد المصادر، وأخطر ما فيها الاختراقات الفكرية عن طريق التقنية القادرة على غسل مخهم بالكامل، وتغيير اتجاهاتهم الفكرية، وهنا ينبغي أن تتكامل أدوار التربية والتعليم المؤسساتية مع أداور الأسر حتى لا تجد الأفكار الضالة والفاسدة ثغرات تنفذ منها.

ونقترح إقامة مركز وطني للدراسات والبحوث الإستراتيجية يضم كفاءات عمانية متخصصة في كل العلوم وتكنوقراطية، ومشهود لها بالوطنية وتمسُّكها بالقيم والمنظومة الأخلاقية العمانية، ومستوعبة قضايا الحداثة والتطور للدولة والمجتمع؛ بحيث يكون من بين أهم أهدافه -أي: هذا المركز- إجراء دراسات وبحوث حول القضايا المتعلقة بالوحدة الوطنية وتحديات سلمية الفكر والمجتمع، ودراسة البيئتين الإقليمية والعالمية وتأثيراتها على ثوابتنا الداخلية، وكذلك دراسة حجم السياسات الحمائية وكفايتها وضمانة الحفاظ على قوة المجتمع ومنظومة ولاءاته الفوقية والتحتية الوطنية.. واقتراح التوصيات اللازمة للتصحيح والتصويب في الآجال الزمنية المستحقة بناء على دراسات علمية ومن مصدر وطني موثوق به.