تجفيف اللغة!

 

د. صالح الفهدي

 

في أحد المجالسِ التي تُعرضُ فيها مواضيعَ مُختلفة للنِّقاش، كان اللقاء بأحدِ المشرفين على مشروع خيري، وكانَ عُمانيَّاً لكنَّ النسبةَ الغالبةَ من حديثهِ رَطَنها بالإنجليزيَّة، دون مُبرِّر؛ فلا الموضوعُ يتطلَّبُ منهُ أن يستخدمَ مفردات ومصطلحات أجنبية، ولا الحضورُ كانوا عجماً لا يفهمون العربية! فما الذي دفعهُ لأَن يرطُنَ بغيرِ لغتهِ، أمام أهل لغته؟!

لقد بدا هذا الرجلُ نموذجاً لفئةٍ تتوسَّع في استخداماتها للمفردات الأجنبية، وليس ذلك لقصورٍ في العربيةِ، وإنَّما لنكوصِ أهلها عنها، فما الذي يدفعُ من يفضِّل أن يقول "أولْرِديalready " بدلاً من أن يقول "مُسبقاً"، وقد سمعتُ الكثير ممن يستخدمها بالقول: أنا "أولْردي" عملتُ كذا، أو أعطيته خبر "أولْردي"، أيكونُ عذرهُ بأنَّه لا يعرف المفردة العربية البديلة "مُسبقاً" ليقول: أعطيته خبرا مسبقا؟! فإنني لا أعتقدُ ذلك فهو في الحقيقة يستحسن استخدام المفردة الأجنبية، ويفضِّلها على العربية، لغتهُ الأم، لغة آبائه وأجداده، لغة هُويته، وذاته.

في المُقابل تشهَدُ اللهجة الدارجة تجفيفاً لروافدها، حتى أنَّ الناس في مجتمعنا لا يكادون يجدون عبارة حتى يتمسَّكوا بها من مِثْل "الأُمور طيِّبة" فتجدها شائعة، لأنهم لا يكادون يجدون بديلاً عنها، وكأنما جفَّت روافد العربية!، وعبارة أُخرى تُقال في المناسبات وهي "كُلُ عام وأنتم بخير" وكأنها نصٌّ مقدَّس لا يجوز تغييره، يتداولها المجتمع في رسائله وتواصله، وكأنها لا بديلَ عنها، واستعرضْ -أيُّها القارئ- كلمات المناسبات من أفراحٍ وأتراحٍ تجدها هي نفسها لا تتغيَّر، ولا تتبدَّل، وذلك ما يعبِّر عن جفاف اللهجةِ الدارجة، وقصور أهل اللغة العربية عن الاجتهاد والابتداع في الإتيان بالبدائل التي تروقُ للسَّمع، صياغةً وتجديداً.

أما بعض مظاهر تجفيف اللهجة الدارجة فمنها اختفاء الأمثال الشعبية التي كانت ضمن سياق التواصل اللغوي بين النَّاس، فيدلِّل القائل بالمثل الشعبي أو العربي في قوله، وهو ما يعني تعميق التصوير للفكرة التي يريدُ إيصالها، وأذكر أنني كتبتُ مسرحيَّةً ضمَّنتها (70) مثلاً شعبياً، وكتبتُ بحثاً عن "الشخصية العُمانية في الأمثال الشعبية" استخلصتُ منه صورة العُماني من أَلفي مثل، الأمر الذي يعني أنَّ المثل الشعبي متعمِّقٌ في السياق اللغوي المجتمعي للإنسان العُماني.

اختفت القصَّة الشعبية التي كانت تُروى من قِبل الأُمهات والجدَّات، حيث أذكرُ أننا إخوةً وأخوات في طفولتنا كُنَّا نتحلَّقُ مساءً حول أُمَّنا وهي تقصُّ القصَّة علينا، فتغطُّ عينها قليلاً، فنسرعُ في إيقاظها وحثَّها على مواصلة القصَّة لفرطِ حماسنا لمُتابعةِ القصَّة، واختفت الملاحم الشعبية كملحمة الأمير أبوزيد الهلالي، وملحمة الملك الحِميري سيف بن ذي يزن، الذي أذكر أنَّ والدي كان يقصُّها علينا على مدار ثلاثة مساءات.

أمدَّتنا هذه القصص والملاحم بالمُفردات والصُّور وألهبتْ أخيلتنا، وسافرت بنا إلى أقاصي الأرض، وعرَّجت بها إلى تمثُّل سِمات الشخصيات وتصوُّر الأحداث، مما أسهم في إثراءِ قواميسنا اللغوي التي تختزنها الذاكرة، فتجودُ بها على مختلف تعابير المُناسبات بكلِّ يُسرٍ وسلاسة.

اختفتْ مدارس القرآن الكريم أو الكتاتيب التي تزوِّدُ الطفل في بواكير عُمره بالمعاني الروحية، وآلاف المفردات العربية فيشبُّ وقد ترسَّختْ المعاني والمفردات في نفسه.

ها نحنُ إذن بين تجفيف مُتزايدٍ للعامية، وعزوفٍ مُتقادمٍ عن استخدام الفصحى وكأننا قد ارتضينا بهذا المسار، حتى ضاقت بنا السُّبل، وها أنتَ ترى حين تحيِّ -بعبارةٍ مختلفة عن العبارات المتكررة- شابَّاَ فإنَّهُ يُصدَمُ، فيتوقفُ عقلهُ فيما سيردُّ به عليك، فيشعرُ بالحَرج! ذلك لأنَّه يفتقدُ للثراء اللغوي الذي لا يمدُّه بالمفردةِ وحسب بل والقدرة الفورية على صياغة العبارة المُناسبة في صورة سليمة، مُتناسقة، ومتوافقة.

وإذا كان هذا حالنا، فإِنَّ شعوباً أُخرى ليست عربية اللِّسان قد بدأت تتفوَّقُ علينا في تحدِّثها باللغة العربية حتى جعلتنا في منزلةٍ أدنى منها حين نحادثها لأنها اعتادت على اللغة العربية، بينما أضعفْنا نحن -أبناؤها- الاتصال بها، فجازتنا بالجفاءِ إزاء عقوقنا، وجازتهم بالقربى إزاءَ برِّهم بها! على سبيل المثال: أحد الأطباء الشباب من أوغندا كان يتحدَّث بلغةٍ عربيَّةٍ فصيحةٍ عن هرمونٍ يُفرَزه الجسم، فطلبتُ منه توضيحاً مفصَّلاً، فأرسل لي رسائل صوتيَّةً بعربيَّةٍ فصيحة لم يستعن فيها بمفردةٍ أجنبيَّةٍ واحدةٍ، على خِلافِ ما قد يكون من طبيب عربيِّ اللسان -إلا القلّة- إذ سيحشر كلامه بألفاظٍ دخيلة!. وأيضاً حوَّل لي أحد الإخوة رسائل نصيَّة من أحد الدبلوماسيين السنغاليين وهو يُثني بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ على أحد أعمالي، ويُبدي اهتمامه بمعرفة المزيد عن تاريخ وحضارة سلطنة عُمان.

هكذا نُسهم في مأزقنا المُتمثِّل في اضمحلال العاميَّة من ناحية، وضعف التواصل باللغةِ العربية التي اقتصرت على الكتابة عندنا، وبذلك فإِننا نرتكبُ أبشعَ إثمٍ في حقِّ لساننا العربي، وفي حقِّ هويتنا العربية، دون أن نتصوَّر أَثر العاقبة الوبيلة على هُويتنا وذاتنا، وأختُم هنا بمقولةٍ رائعة للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (ت 1976م) يعبِّر فيها عن تمسُّكهِ بلغته قائلاً: "إنَّ لغتي هي مسكني، وهي موطني ومستقري، وهي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع".