صور محفورة في الذاكرة

 

 

منى بنت حمد البلوشية

بعض الصور تبقى راسخة في الذاكرة لا تمحيها السنون، تظل عالقة في الأذهان هكذا وكأن القدر يُبقيها لنا حيَّة ما تبرح أن تزول؛ لتكون رفيقة ومصاحبة لنا، منخفض المطير الذي طاف بلادنا الحبيبة رحل تاركًا جرحًا ينزف بأفئدتنا، وأفئدة أناس لن تستطيع تخطي ماحدث لها إلا بأمره وقدرته ولن يندمل.

وما حدث ببلدة سمد الشأن بمحافظة شمال الشرقية، خلّف قلوبًا وصرخات مكلومة، 11 طفلًا من طلبة العلم ذهبوا شهداءً بأحد الأودية الجارفة التي مرّت على المنطقة، لقد كان يومًا حزينًا في عُمان قاطبة، وفاجعة اعتصرت قلوبنا، وقلوبنا مع أمهات الطيور التي ارتقت إلى بارئها نتألم لألمهن، ونسأل الله أن يمسح ويربط على قلوبهن بالرحمة والصبر والسلوان، فقد كانت لهؤلاء الطيور أحلام وطموحات وذكريات لم تكتمل ولم يتحدثوا عنها بعد، وإنني أكتب هذه المقالة ليست عيني هي التي تبكي بل قلبي وفؤادي الذي يبكي حرقة لفقدهم، رحلوا دون أن يكملوا أحاديثهم وفرحة العيد لأصدقائهم وزملائهم، وكم ثار في قلبي الحزن أكثر عندما قرأتُ تغريدة للدكتورة ريا المنذرية عبر منصة "إكس" عند ذهابها لأمهات شهداء العلم؛ لأداء واجب التعزية وأم أحد هؤلاء الطلبة تقول:" لم أكن أتوقع يومًا أن يكرمني الله بشرف موت أحد أبنائي شهيدًا، رغم أنه كان يردد بأنه يحلم بذلك" وهذه إحدى طموحات طالب وطفل صغير في السن تحققت وأم مكلومة في ابنها، ونحن نعلم عمق الحزن الذي يعتريها.

ما أبشع الحزن والفقد وإنهن راضيات صابرات ومحتسبات أمرهنّ لله عزَّ وجلَّ ولا رادّ لقضائه ولا مُعقب لحكمه، والمؤمن لا تزيده البلايا إلا إيمانًا وثباتًا وتسليمًا ورضًا به عز وجل.

هذه الصورة لشهداء العلم ستبقى راسخة في الأذهان مهما حاول العقل نسيانها، فالقلب والفؤاد لن ينسياها، إنها طفولة انتزعت وذكريات لن تخبو حرائقها، فلم يكن موتًا عاديًا بأن يرحل أطفال وطلبة علم لا ذنب لهم، وقد ترددت الأصوات وعلت قائلين من المسؤول عما حدث، ومن المؤسف جدًا أن يأتي تصريح ويلقي اللوم على ولي الأمر، وأين دور وزارة التربية والتعليم في قراراتها التي لا بُد لها أن تتخذها قبل كل شيء؟ وكيف يمكن تفادي مثل هذه الأحداث؟ وكيف يمكن أن تكون المدارس بالقرب من مجرى الوديان؟ وهل هناك خطط جديدة ستتبع؟ وهل ستكون هناك خطط لأجل تجنب مشاكل البنى التحتية وإصلاحها؟ وهل ستقوم وزارة التربية والتعليم بوضع قوانين صارمة؟ وكيف يمكن إحلال التعليم المدمج من خلال التعليم عن بُعد من خلال الحصص المتزامنة وغير المتزامنة؟

أسئلة كثيرة تراودني وكل حلولها بأيدي المسؤولين الذين يتابعون كل ما حدث ويحدث، وعلينا جميعًا أن نوحد أصواتنا تجاه نظرة تخططية أوسع في مواجهة الأنواء المناخية المتوالية على السلطنة، وحفاظًا على الأرواح التي تزهق ولا ذنب لها، ولابد من وجود لجنة خاصة لإدارة الأزمات هي التي تتخذ القرارات اللازمة فأترك السؤال المفتوح لهذه الصورة وماذا بعد؟

أما الصورة الأخرى الراسخة في الأذهان منذ سنوات طوال، إلا أنها ما زالت تعيد نفسها، وبذات الصمود والتكاتف والتعاون، إنهم أبناء عمان العظيمة بشعبها وبروحها المرحة مهما عصفت بها التحديات فهي لا ترضخ للمستحيل سواعد وأيادٍ تكاتفت لأن تكون رمزًا للوفاء والإخاء ورسم البسمة على الوجوه، إنه شعب عظيم ولحمة وطنية رائعة، فعُمان بسواعد أبناءها دائمًا تتكاتف، في هذه الصورة توحدت الصفوف والجنود وهم يعلمون بأن الله لا يعطي أصعب المعارك إلا لأقوى جنوده ويستطيعون أن يتغلبوا على هذه المحنة الإلهية والابتلاء، لأنهم تربوا على اجتياز المحن وأن الأرض الطيبة لا تنبت إلا طيبًا.

بقلوب تنبض بالوطنية وروح التضحية، يستجيب كل من أبناء عُمان لنداء العمل التطوعي في ظل الأزمة الراهنة، وبتكاتفهم وتعاونهم يبنون ملحمة وطنية تحمل بصمات الأمل والتضامن، إنهم أبطال يعلمون بأن العطاء يصنع الفارق وأن الوحدة هي قوتهم في مواجهة التحديات ملبين النداء لأجل عُمان.

هذا ليس بغريب على أبناء عُمان العظيمة، فمن الأزمنة الغابرة والعمانيون عاصروا الأزمات والحالات الطارئة وعايشوها وعاصروها، فأنتجوا من خلالها شواهد إثبات على صبرهم وتكاتفهم والتزامهم بتواجيهات القيادة الحكيمة، واندماجهم مع مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمدنية فهي خطوط ممتدة غير منقطعة بل تزيد من شدة الأواصر والتماسك والتلاحم والتكاتف، فهم كالبينان المرصوص في توادهم وتراحمهم يأبون أن يظل أحدهم يبكي ويتداعى بالسهر دون أن يلتفت له أحد.

شكرًا لأبناء عُمان الأعزاء ولكافة الجهات العسكرية التي بذلت كل جهد لأجل راحة المواطنين، وانتشالهم من تلك الأودية الجارفة، الساهرين على الحدود المرابطين والصامدين على حماية وحراسة أمن البلاد، فهذه صور ستبقى محفورة في الذاكرة كغيرها من الصور السابقة التي رافقت ذاكرتنا وما زالت ترافقها وتأبى أن تخرج منها، بل تحتفظ بها والصور كثيرة أنا وغيري يحتفظ بها، وإن ذكرناها فهي كثيرة لعلها تجد مخرجًا وقرارات نشطة وصارمة إزاء أي أزمة وقبل حدوثها، وبلادنا من الدول التي عاصرت عدة أعاصير ومنخفضات وعلينا أن نأخذ العِبر والدروس منها، ونستلهمها لأجيالنا وأبناء وطننا العزيز، فهم حاضرها ومستقبلها.

نحن لسنا وليدي اليوم؛ بل منذ سنوات وتتعرض حبيبتنا لمثل هذه الأمطار والمنخفضات، لنقف وقفة صارمة حتى لا تتكرر مشاهد الفقد.

ربِّ اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء، اللهم احفظ عُمان واجعلها آمنة مستقرة واجعل أهلها ينعمون بالخيرات، اللهم احفظ جلالة السلطان هيثم بن طارق وارزقه الصحة والعافية والعمر المديد.

تعليق عبر الفيس بوك