مبادرة "فك كربة" في رمضان

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

 

العمل الخيري هو أجمل وأنبل المواقف التي يُسطِّرها أصحاب الهمم العالية والنفوس الزكية، فكم هم عظماء هؤلاء الناس من حولنا الذين أنفقوا من أموالهم في سبيل الله لإنقاذ غيرهم ممن ينتظر الفرج، إنه الكرم الحاتمي بما تحمله هذه الكلمة من معنى.

لما لا وهم أصحاب الأيادي البيضاء الذين يتجلى ظهورهم في النسخة الحادية عشرة من مبادرة (فك كربة)، بعزيمة تعانق السماء، فتلك الجهود رصيد للإنسانية جمعاء عبر التاريخ، ولعلنا نشير هنا إلى تبرعات الوقف من قبل بعض رجال الأعمال في أوروبا وأمريكا في تأسيس الجامعات والمراكز العلمية التي أصبحت بوصلة للفكر والإبداع للعالم بأسره مثل جامعة استانفورد وهارفارد وبعض كليات جامعة أكسفورد البريطانية وغيرها من المؤسسات الوقفية التي هي حاليا موطن للاختراعات العلمية ومصدرا للبحوث الرصينة التي تقود إلى معالجة الكثير من الأمراض المستعصية في العالم.

يبدو لي أن هذه الأعمال الخيرية التي تلم شمل الأسر التي فرقتها الأيام وباعدت بينها الأحكام القضائية؛ لهو قمة في العطاء والمعروف في هذا البلد العزيز، لقد ارتقت المجتمعات في معظم دول العالم من خلال أشخاص رائعين يتبرعون بسخاء للمحتاجين والمعسرين، وخاصة من هم خلف القضبان بسبب الأحكام القضائية التي لا تمنح لمن أخطأ فرصة ثانية؛ بل تعمل على تنفيذ التشريعات السارية حرفيًا حسب القانون، فلا يدرك هؤلاء أن بعض الأحيان يتطلب بأن تكون الرحمة فوق القانون.

لا شك أنَّ مبادرة "فك كربة" لجمعية المحامين العمانية في نسختها الأخيرة، والتي تسعى إلى جمع التبرعات المالية بهدف فك أسر المعسرين من نزلاء السجون بسبب مطالبات مالية مترتبة عليهم في قضايا مدنية وتجارية وشرعية وعمالية، لهو عمل خيري جدير بالتقدير والإشادة لأن من خلاله يتم إطلاق سراح القابعين في السجن، خاصة الذين لهم أسر وأطفال؛ فهذه المبادرة تمنحم فرصة جديدة لكي يندمجوا مع المجتمع ويبدأوا فصلًا جديدًا في هذه الحياة قوامها العبر والاستفادة من الدروس والأخطاء التي قادتهم إلى غياهب السجون.

لقد تعددت الأعمال الإنسانية في هذا البلد العزيز؛ إذ تابعنا خلال الأيام الماضية مساهمة العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة في تقديم الدعم لجمعية المحاميين العمانية من خلال دعوة الموظفين في تلك المؤسسات للتبرع لمبادرة (فك كربة)  التي سبق لها أن نجحت بالإفراج عن أكثر من 5890 سجينًا، وذلك منذ تأسيسها عام 2012، بينما تعمل هذه الأيام المباركة على إطلاق سراح 1500 حالة جديدة، وذلك في إطار برنامجها السنوي 2024.

ما يُميِّز هذا العام نجاح جمعية المحامين العمانية باستقطاب كوكبة من رموز المجتمع المدني المؤثرين للحديث عن أهمية التبرع لفك كربة السجناء الذين ضاقت بهم السبل ويحتاجون إلى يد العون من الميسرين والتجار في السلطنة، فقد عجت وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات صادقة من الوزير السابق معالي يوسف بن علوي عبدالله، وصاحبة السمو السيدة حجيجة آل سعيد رئيسة مجلس إدارة جمعية الأطفال ذوي الإعاقة، والدكتور راشد البلوشي رئيس لجنة حقوق الإنسان العمانية.

وعلى الرغم من ذلك؛ فإن جمعية المحامين العمانية التي تشرف على هذه المبادرة لا تزال بعيدة عن تحقيق طموحاتها؛ فهؤلاء المحامون عازمون على محاولة الإفراج عن جميع السجناء المعسرين خاصة الذين لهم أطفال وأسر تنتظرهم في الخارج.

تحية صادقة لجميع القائمين على هذه المبادرة الإنسانية الرائعة، فعزيمة أعضاء جمعية المحامين العمانية قوية وجديرة بالتقدير والاحترام؛ من هنا فقد نالت ثقة الجميع في سلطنتنا الحبيبة، فكانت جائزة المسؤولية الاجتماعية للشركات لعام 2023 التي تمنحها صحيفة الرؤية العمانية من نصيب هذه المؤسسة القانونية العريقة والتي بحق جديرة بالتكريم.  

وفي الختام.. لا يمكن الحديث عن مساعدة المحتاجين وفك كربة المعسرين، دون الإشارة إلى واحد من رموز الكرم والسخاء في سماء السلطنة، الذي كانت في أيامه الذهبية تغطي مظلته الجميع ناشرة الخير والرخاء والاستقرار بين أفراد المجتمع، إنه الشيخ سعود بن سالم بهوان- طيب الله ثراه-، فقد حمل هذا الرجل العظيم راية العمل الخيري في البلاد بلا منازع، فكان عطاء المرحوم منقطع النظير، خاصة في محاربة الفقر، فقد شمل العطاء البدو والحضر في الولايات والصحاري العُمانية، كم هو جميل أن نحلم اليوم بوجود شخص مثل سعود بهوان من بين عشرات التجار الذين تزيد ثرواتهم عن الشيخ سعود، فهل نجده لكي يفك أسر من ينتظر الفرج من أصحاب الكرب الذين هم حاليًا خلف القضبان؟

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري