نفحات رمضانية

 

د محمد بن عوض المشيخي **

 

نعيشُ هذه الأيام نفحات رمضان الإيمانية التي ننتظرها كل عام بفارغ الصبر؛ إذ إنِّها فرصة لمُراجعة علاقتنا مع الخالق، الذي أنعم علينا بهذا الشهر الكريم، الذي هو في الأساس أفضل شهور العام؛ حيث تتضاعف فيه الحسنات، ونحتاج فيه لغسل القلوب والأنفس من الأحقاد والضغائن التي تراكمت على مر شهور السنة في نفوسنا لمن حولنا من البشر.

لا شك أنَّ القناعات الحقيقية هي مصدر سعادة وبهجة للقليل من البشر في كوكبنا الذي نُقاتل فيه بعضنا بعضًا من أجل الفوز بالمكاسب والسيطرة على منافع هذه الدنيا الفانية. وهذا لا يحصل على مستوى الأفراد فقط؛ بل على مستوى الجماعات والشعوب والأمم والمنافسة والحصول على المكاسب حتى ولو على حساب الإخاء والصحبة حتى يومنا هذا. ولكي نبعد عن الظلامات، ونُضاعِف الحسنات في هذا الشهر الفضيل، علينا أن نتجنب النميمة، والبعد عن أكل مال الحرام، وظلم الآخرين من حولنا، وكذلك بِر الوالدين؛ فأجمل ما في هذه الحياة هو أن نعيش حياة يسودها الصلاح والالتزام بتعاليم الدين الحنيف.

من المؤسف حقًا أن نرى من النَّاس حولنا من يشعر بالهم والكسل بسبب الصوم؛ حيث يشعر هؤلاء بأنَّ انقطاعهم عن الأكل والشراب ووجبات الإفطار المعتادة بمثابة كارثة لهم! فبالكاد يردون عليك السلام، كما يقل إنتاج هؤلاء في العمل، ويفضلون النوم ساعات النهار ويسهرون الليل ويكثرون من الطعام حتى ساعات الفجر.

ولا يدرك هؤلاء أنَّ هذا الشهر الكريم، هو شهر الانتصارات والإنجازات، وكذلك الصبر ومجاهدة النفس، ويعلمنا كيف نشعر بمعاناة الفقراء الذين يتضرعون من شدة الجوع، وقبل ذلك كله هو شفاء للعديد من الأمراض المزمنة. فقد أجمع الأطباء في الشرق والغرب على عظمة الصوم وإيجابيته على الصحة العامة للصائمين. كما أن رمضان شهر العبادات وتلاوة القرآن وحفظه والتدبر في آياته.

ومن العادات السيئة التي ارتبطت برمضان؛ التباهي والإفراط في إقامة ولائم الإفطار في المنازل والاستراحات، ودعوة الضيوف لتلك العزائم اليومية التي تُقام طوال أيام الشهر الكريم؛ إذ تُهدَر كميات كبيرة من الطعام، وتذهب للنفايات دون رقيب أو حسيب. هذه النعم قد تزول بسبب الأفعال التي تتنافى مع حرمة الشهر وروحانيته، في الوقت الذي يُعاني فيه الفقراء في العديد من الدول العربية من المجاعة وقلة التغذية. وتأتي دول الخليج العربية في مقدمة الدول في إهدار الطعام، فقد تصدرت المملكة العربية السعودية دول العالم؛ إذ تصل نسبة الإهدار إلى 33% من الأغذية المُنتجة والمتوفرة في البلد؛ بقيمة تبلغ نحو 40 مليار ريال سعودي سنويًا، في حين يصل إجمالي الهدر في الغذاء داخل المملكة إلى أكثر من 8 ملايين طن كل عام، ثم تأتي الإمارات والكويت تباعًا، بينما يُقدَّر متوسط هدر الغذاء في السلطنة بحوالي 470322 طنًا سنويًا، وبلغت الخسائر المالية السنوية لهذا الهدر أكثر من 56 مليون ريال عُماني.

ومن المُفارقات العجيبة أنَّ العديد من الدول العربية التي كانت تعيش حياة يسودها الرفاهية والبذخ والولائم الكبيرة في مطلع القرن العشرين، انتشرت فيها المجاعات في العقود الحالية بسبب عدم المحافظة على النعم.

لا شك أنَّ رمضان هذه السنة أتى في ظروف استثنائية ومختلفة عن كل الأعوام الماضية؛ حيث يعاني الأشقاء في غزة الأمرّيْن؛ إذ ترتكب العصابات الصهيونية المتطرفة إبادة جماعية في أرض الرباط (فلسطين) المحتلة والقدس الشريف التي باركها الله سبحانه وتعالى وجعلها في عهدة المجاهدين من هذه الأمة الخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والتي قادت بنجاح "طوفان الأقصى" دفاعًا عن شرف الأمة. ولا ريب معاناة أهلنا في غزة على امتداد أكثر من 5 أشهر كاملة كارثية بكل المقاييس؛ فقد عمَّ الحزن أنحاء الأمة الإسلامية التي كانت غزة تنتظر الفرج منهم في هذه الأيام المباركة. لكن خذلهم الجميع، خاصة الشعوب العربية الذين وصلوا إلى طريق مسدود في إغاثة غزة ومنع المجازر اليومية، ولا شك أن ذلك لوصمة عار على جبين ملايين العرب.

في الختام.. ضيف كريم قد أهلَّ علينا في أيامه العشر الأولى؛ فيجب أن نُحسن استقباله بالتوبة النصوح والإخلاص في العبادات لوجهه تعالى؛ فرمضان شهر التضحيات والإيمان والقيام، فأوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار. وقبل ذلك كله يجب أن نستقبله بالتسامح والتجاوز عن الآخرين الذين ألحقوا بنا الأذى في سابق الأيام من الإخوة والأصدقاء من حولنا؛ وأن نحتسب ذلك لله.. فبالتسامح تُجبَر الجراح، ويلتئم الشمل في رحاب الشهر الكريم.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري